للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إِذْ أَصْلُ النَّعْتِ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا ثَابِتًا وَأَصْلُ الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا حَادِثًا، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مُتَّبَعٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ أَنْ يُعَادَ الِاسْمُ أَوِ الْفِعْلُ بَعْدَ ذكره ليبنى على وَصْفٌ أَوْ مُتَعَلِّقٌ كَقَوْلِهِ إِلهاً واحِداً [الْبَقَرَة: ١٣٣] . وَقَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: ٢٧] وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ... وَالتَّنْكِيرُ فِي إِلهٌ لِلنَّوْعِيَّةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَقْرِيرُ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَيْسَ لِلْإِفْرَادِ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ واحِدٌ خِلَافًا لِصَاحِبِ «الْمِفْتَاحِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [الْأَنْعَام: ١٩] إِذْ جَعَلَ التَّنْكِيرَ فِي إِلهٌ لِلْإِفْرَادِ وَجَعَلَ تَفْسِيرَهُ بِالْوَاحِدِ بَيَانًا لِلْوَحْدَةِ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى الْإِفْرَادِ فِي الْقَصْدِ مِنَ التَّنْكِيرِ مَصِيرٌ لَا يَخْتَارُهُ الْبَلِيغُ مَا وَجَدَ عَنْهُ مَنْدُوحَةً.

وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْوَحْدَةِ وَتَنْصِيصٌ عَلَيْهَا لِرَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكَمَالَ كَقَوْلِهِمْ فِي الْمُبَالَغَةِ هُوَ نَسِيجُ وَحْدِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِلَهَ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الْمُشْرِكُونَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ: «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ» .

وَقَدْ أَفَادَتْ جُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ التَّوْحِيدَ لِأَنَّهَا نَفَتْ حَقِيقَةَ الْأُلُوهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَخَبَرُ لَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي لَا مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ لِأَنَّ كُلَّ سَامِعٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ فَالتَّقْدِيرُ لَا إِلَه مَوْجُود إِلَّا هُوَ. وَقَدْ عَرَضَتْ حَيْرَةٌ لِلنُّحَاةِ فِي تَقْدِيرِ الْخَبَرِ فِي هَاتِهِ الْكَلِمَةِ لِأَنَّ تَقْدِيرَ مَوْجُودٍ يُوهِمُ أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ إِلَهٌ لَيْسَ هُوَ مَوْجُودًا فِي وَقْتِ التَّكَلُّمِ بِهَاتِهِ الْجُمْلَةِ، وَأَنَا أُجِيبُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبْطَالُ وُجُودِ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ رَدًّا عَلَى الَّذِينَ ادَّعَوْا آلِهَةً مَوْجُودَةً الْآنَ وَأَمَّا انْتِفَاءُ وُجُودِ إِلَهٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَعْلُومٌ لِأَنَّ الْأَجْنَاسَ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ لَا يُتَرَقَّبُ وَجُودُهَا مِنْ بَعْدُ لِأَنَّ مُثْبِتِي الْآلِهَةَ يُثْبِتُونَ لَهَا الْقِدَمَ فَلَا يُتَوَهَّمُ تَزَايُدُهَا، وَنُسِبَ إِلَى الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ لِخَبَرٍ هُنَا وَأَنَّ أَصْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هُوَ إِلَهٌ فَقَدَّمَ إِلهٌ وَأَخَّرَ (هُوَ) لِأَجْلِ الْحَصْرِ بِإِلَّا وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَلَّفَ فِي ذَلِكَ «رِسَالَةً» ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا مَفَاهِيمَ لَهَا فَلَيْسَ تَقْدِيرُ لَا إِلَهَ مَوْجُودٌ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ بِقَوْلِكَ لَا إِلَهَ مَوْجُودٌ بَلْ إِنَّ التَّقْدِيرَ لِإِظْهَارِ مَعَانِي الْكَلَامِ وَتَقْرِيبِ الْفَهْمِ وَإِلَّا فَإِنَّ لَا النَّافِيَةَ إِذَا نَفَتِ النَّكِرَةَ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ أَيْ نَفْيِ تَحَقُّقِ الْحَقِيقَةِ فَمَعْنَى لَا إِلَهَ انْتِفَاءُ الْأُلُوهِيَّةِ إِلَّا اللَّهُ أَي إلّا الله.

وَقَوْلُهُ: الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ وَصْفَانِ لِلضَّمِيرِ، أَيِ الْمُنْعِمِ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ وَدَقَائِقِهَا وَهُمَا وَصْفَانِ لِلْمَدْحِ وَفِيهِمَا تَلْمِيحٌ لِدَلِيلِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالِانْفِرَادِ بهَا لِأَنَّهُ منعم، وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِمُنْعِمٍ وَلَيْسَ فِي الصِّفَتَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَصْرِ وَلَكِنَّهُمَا تَعْرِيضٌ بِهِ هُنَا لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِإِبْطَالِ

أُلُوهِيَّةِ غَيْرِهِ