فَالصَّابِرُ مُرْتَاضٌ بِتَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ وَتَجَرُّعِ الشَّدَائِدِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ فَيَهُونُ عَلَيْهِ تُرْكُ الِانْتِقَامِ.
ويُلَقَّاها يُجْعَلُ لَاقِيًا لَهَا، أَيْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الْإِنْسَان:
١١] ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلسَّعْيِ لِتَحْصِيلِهَا لِأَنَّ التَّحْصِيلَ عَلَى الشَّيْءِ بَعْدَ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّخَلُّقِ يُشْبِهُ السَّعْيَ لِمُلَاقَاةِ أَحَدٍ فَيَلْقَاهُ. وَجِيءَ فِي يُلَقَّاها بِالْمُضَارِعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَأْمُورٌ بِتَحْصِيلِ هَذَا الْخُلُقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَجِيءَ فِي الصِّلَةِ وَهِيَ الَّذِينَ صَبَرُوا بِالْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ خُلُقٌ سَابِقٌ فِيهِمْ هُوَ الْعَوْنُ عَلَى مُعَامَلَةِ الْمُسِيءِ بِالْحُسْنَى، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِلَّا الصَّابِرُونَ، لِنُكْتَةِ كَوْنِ الصَّبْرِ سَجِيَّةً فِيهِمْ مُتَأَصِّلَةً. ثُمَّ زِيدَ فِي التَّنْوِيهِ بِهَا بِأَنَّهَا مَا تَحْصُلُ إِلَّا لِذِي حَظٍّ عَظِيمٍ.
وَالْحَظُّ: النَّصِيبُ مِنَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالنَّصِيبِ مِنْ خَيْرٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا:
نَصِيبُ الْخَيْرِ، بِالْقَرِينَةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْوَضْعِ، أَيْ مَا يَحْصُلُ دَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ إِلَّا لِصَاحِبِ نَصِيبٍ عَظِيمٍ مِنَ الْفَضَائِلِ، أَيْ مِنَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ وَالِاهْتِدَاءِ وَالتَّقْوَى.
فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَيْنِ أَنَّ التَّخَلُّقَ بِالصَّبْرِ شَرْطٌ فِي الِاضْطِلَاعِ بِفَضِيلَةِ دَفْعِ السَّيِّئَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ وَحْدَهُ شَرْطًا فِيهَا بَلْ وَرَاءَهُ شُرُوطٌ أُخَرُ يَجْمَعُهَا قَوْلُهُ: حَظٍّ عَظِيمٍ، أَيْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالصَّبْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَظِّ الْعَظِيمِ لِأَنَّ الْحَظَّ الْعَظِيمَ أَعَمُّ مِنَ الصَّبْرِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الصَّبْرُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَصْلُهَا وَرَأْسُ أَمْرِهَا وَعَمُودُهَا.
وَفِي إِعَادَةِ فِعْلِ وَما يُلَقَّاها دُونَ اكْتِفَاءٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ إِظْهَارٌ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ صَرِيحِهِ شَيْءٌ تَحْتَ الْعَاطِفِ.
وَأَفَادَ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أَن الْحَظُّ الْعَظِيمُ مِنَ الْخَيْرِ سَجِيَّتُهُ وَمَلَكَتُهُ كَمَا اقْتَضَتْهُ إِضَافَةُ ذُو.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute