للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٤٨] .

وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ يَعُمُّ الْأَدْيَانَ الْإِلَهِيَّةَ السَّابِقَةَ. ومِنَ لِلتَّبْعِيضِ.

وَالتَّوْصِيَةُ: الْأَمْرُ بِشَيْءٍ مَعَ تَحْرِيضٍ عَلَى إِيقَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ مِثْلُ مَا أَمَرَ بِهِ نُوحًا وَحَضَّهُ عَلَيْهِ.

فَقَوْلُهُ: مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً مُقَدَّرٌ فِيهِ مُضَافٌ، أَيْ مِثْلَ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، أَوْ هُوَ بِتَقْدِيرِ كَافِ التَّشْبِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ مُبَالَغَةً فِي شِدَّةِ الْمُمَاثَلَةِ حَتَّى صَارَ الْمِثْلُ كَأَنَّهُ عَيْنُ مِثْلِهِ. وَهَذَا تَقْدِيرٌ شَائِعٌ كَقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ: «هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى» .

وَالْمُرَادُ: الْمُمَاثَلَةُ فِي أُصُولِ الدِّينِ مِمَّا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ، وَفِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مِنْ كُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِ، وَأَعْظَمُهَا تَوْحِيدُ اللَّهِ، ثُمَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ

الضَّرُورِيَّاتِ، ثُمَّ الْحَاجِيَّاتِ الَّتِي لَا يَسْتَقِيمُ نِظَامُ الْبَشَرِ بِدُونِهَا، فَإِنَّ كُلَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأَدْيَانُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَدْ أُودِعَ مِثْلُهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ. فَالْأَدْيَانُ السَّابِقَةُ كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَتَقْوَى اللَّهِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ مَنْهِيِّهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَبِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ بِحَسَبِ الْمَعْرُوفِ، قَالَ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: ١٤- ١٩] . وَتَخْتَلِفُ فِي تَفَاصِيلِ ذَلِكَ وَتَفَارِيعِهِ.

وَدِينُ الْإِسْلَامِ لَمْ يَخْلُ عَنْ تِلْكَ الْأُصُولِ وَإِنْ خَالَفَهَا فِي التَّفَارِيعِ تَضْيِيقًا وَتَوْسِيعًا، وَامْتَازَتْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ بِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ وَالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ وَبِرَفْعِ الْحَرَجِ وَبِالسَّمَاحَةِ وَبِشِدَّةِ الِاتِّصَالِ بِالْفِطْرَةِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي «مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ» .

أَوِ الْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةُ فِيمَا وَقَعَ عَقِبُهُ بَقَوْلِهِ: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ إِلَخْ بِنَاءً عَلَى أَنْ