وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَقَوْلِهِ: وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ، جِيءَ بِالْمَوْصُولِ مَا، وَفِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ جِيءَ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي، وَقَدْ يظْهر فِي بادىء الرَّأْيِ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ بِتَجَنُّبِ تَكْرِيرِ الْكَلِمَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي هَذَا التَّخَالُفِ. وَلَيْسَ يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاخْتِلَافُ لِغَرَضٍ مَعْنَوِيٍّ، وَأَنَّهُ فَرْقٌ دَقِيقٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي وَأِخَوَاتِهِ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْمَوْصُولَاتِ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ مِنْ أَصْلِ الْوَضْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَنْ يُعَيَّنُ بِحَالَةٍ مَعْرُوفَةٍ هِيَ مَضْمُونُ الصِّلَةِ، فَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ بِصِلَتِهِ.
وَأَمَّا مَا الْمَوْصُولَةُ فَأَصْلُهَا اسْمٌ عَامٌّ نَكِرَةٌ مُبْهَمَةٌ مُحْتَاجَةٌ إِلَى صِفَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النِّسَاء: ٥٨] عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَجَمَاعَةٍ إِذْ قَدَّرُوهُ: نِعْمَ شَيْئًا يعظكم بِهِ. فَمَا نكرَة تَمْيِيز ل (نِعْمَ) وَجُمْلَةُ يَعِظُكُمْ بِهِ صِفَةٌ لِتِلْكَ النَّكِرَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: ٢٣] الْمُرَادُ: هَذَا شَيْءٌ لَدَيَّ عَتِيدٌ، وَأَنْشَدُوا:
لِمَا نَافِعٍ يَسْعَى اللَّبِيبُ فَلَا تَكُنْ ... لِشَيْءٍ بَعِيدٍ نَفْعُهُ الدَّهْرَ سَاعِيًا
أَيْ لِشَيْءٍ نَافِعٍ، فَقَدْ جَاءَتْ صِفَتُهَا اسْمًا مُفْرَدًا بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بَقَوْلِهِ: لِشَيْءٍ بَعِيدٍ نَفْعُهُ، ثمَّ يعرض لما التَّعْرِيفُ بِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بِجُمْلَةٍ فَتَعَرَّفَتْ بِصِفَتِهَا وَأَشْبَهَتِ اسْمَ الْمَوْصُولِ فِي مُلَازَمَةِ الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، وَلِذَلِكَ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ مَا مَوْصُولَةً فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، فَيَكُونُ إِيثَارُ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَمَا وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى بِحَرْفِ مَا لِمُنَاسَبَةِ أَنَّهَا شَرَائِعُ بَعُدَ الْعَهْدُ بِهَا فَلَمْ تَكُنْ مَعْهُودَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ إِلَّا إِجْمَالًا فَكَانَتْ نَكِرَاتٍ لَا تَتَمَيَّزُ إِلَّا بِصِفَاتِهَا، وَأَمَّا إِيثَارُ الْمُوحَى بِهِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِ الَّذِي فَلِأَنَّهُ شَرْعٌ مُتَدَاوَلٌ فِيهِمْ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ. فَالتَّقْدِيرُ: شَرَعَ لَكُمْ شَيْئًا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَشَيْئًا
وَصَّى بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، وَالشَّيْءَ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْكَ. وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ نُكَتِ الْإِعْجَازِ الْمَغْفُولِ عَنْهَا. وَفِي الْعُدُولِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ بَعْدَ قَوْلِهِ شَرَعَ لَكُمْ الْتِفَاتٌ.
وَذَكَرَ فِي جَانِبِ الشَّرَائِعِ الْأَرْبَعِ السَّابِقَةِ فِعْلَ وَصَّى وَفِي جَانِبِ شَرِيعَة
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute