سَاوَرَهُ أَحَدٌ بِبَادِئِ عَمَلٍ مِنَ الْبَغْيِ فَهُوَ مُرَخَّصٌ لَهُ أَنْ يُدَافِعَهُ عَنْ إِيصَالِ بَغْيِهِ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ وَلَا يُمْهِلَهُ حَتَّى يُوقِعَ بِهِ مَا عَسَى أَنْ لَا يَتَدَارَكَهُ فَاعِلُهُ مِنْ بَعْدُ، وَذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ أَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَ حُصُولِهِ، أَيْ مَعَ غَلَبَةِ ظَنِّهِ بِسَبَبِ ظُهُورِ بَوَادِرِهِ، وَهُوَ مَا قَالَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ: «يَجُوزُ دَفْعُ صَائِلٍ بِمَا أَمْكَنَ» .
وَمَحَلُّ هَذِهِ الرُّخْصَةِ هُوَ الْحَالَاتُ الَّتِي يُتَوَقَّعُ فِيهَا حُصُولُ الضُّرِّ حُصُولًا يَتَعَذَّرُ أَوْ يَعْسُرُ رَفْعُهُ وَتَدَارُكُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَحَلَّهَا هُوَ الْحَالَةُ الَّتِي لَمْ يَفُتْ فِيهَا فِعْلُ الْبَغْيِ، فَأَمَّا إِنْ فَاتَ فَإِنَّ حَقَّ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ يَكُونُ بِالرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ وَلَا يَتَوَلَّى الْمَظْلُومُ الِانْتِصَافَ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا شَمِلَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَكِنَّهُ مُسْتَقْرًى مِنْ تَصَارِيفِ الشَّرِيعَةِ وَمَقَاصِدِهَا فَفَرَضْنَاهُ هُنَا لِمُجَرَّدِ بَيَانِ مَقْصِدِ الْآيَةِ لَا لِبَيَانِ مَعْنَاهَا.
وَالْمُرَادُ بِالسَّبِيلِ مُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةِ بِاللَّائِمَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَاللَّمْزِ بِالْعُدْوَانِ وَالتَّبِعَةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِقَتْلِ المسالمين، سمي بذلك سَبِيلًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الطَّرِيقَ فِي إِيصَالِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَكَثُرَ إِطْلَاقُ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ فَاءُ جَوَابِ الشَّرْطِ فَإِنْ جَعَلْتَ لَام لَمَنِ انْتَصَرَ لَامَ الِابْتِدَاءِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ جَعَلْتَ اللَّامَ مُوطِئَةً لِلْقَسَمِ كَانَ اقْتِرَانُ مَا بَعْدَهَا بِفَاءِ الْجَوَابِ تَرْجِيحًا لِلشَّرْطِ عَلَى الْقَسَمِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَالْأَعْرَفُ أَنْ يُرَجَّحَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَيُعْطَى جَوَابَهُ وَيُحْذَفَ جَوَابُ الثَّانِي، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ فِي الْقَسَمِ الصَّرِيحِ دُونَ الْقَسَمِ الْمَدْلُولِ بِاللَّامِ الْمُوطِئَةِ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي صَدْرِ جَوَابِ الشَّرْطِ لِتَمْيِيزِ الْفَرِيقِ الْمَذْكُورِ أَتَمَّ تَمْيِيزٍ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ هُوَ أَنَّهُمُ انْتَصَرُوا بَعْدَ أَنْ ظُلِمُوا وَلَمْ يَبْدَأُوا النَّاس بالبغي.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute