وَأَصْلُ الْوَحْيِ: الْإِشَارَةُ الْخَفِيَّةُ، وَمِنْهُ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَم:
١١] . وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَجِدُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ دَفْعَةً كَحُصُولِ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
وَأَوْحَى إِلَيَّ اللَّهُ أَنَّ قَدْ تَآمَرُوا ... بِإِبْلِ أَبِي أَوْفَى فَقُمْتُ عَلَى رِجْلِ
وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِقَرِينَةِ الْمُقَابَلَةِ بِالنَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَمِنْ هُنَا أُطْلِقَ الْوَحْيُ عَلَى مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ مِنَ الْإِلْهَامِ الْمُتْقَنِ الدَّقِيقِ كَقَوْلِهِ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النَّحْلِ: ٦٨] . فَالْوَحْيُ بِهَذَا الْمَعْنَى نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ إِلْقَاءِ كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الْعَدِّ، فَأُطْلِقَ الْوَحْيُ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَسْمَعُهُ النَّبِيءُ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مِنْ مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ» فَقَرَأَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاء: ٩٥] ، وَلَمْ يقل فَنزل إِلَيْهِ جِبْرِيلُ.
وَالْوَحْيُ بِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ الْوَحْيِ الَّذِي سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ. وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ هُنَا: إِيقَاعُ مُرَادِ اللَّهِ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلنَّبِيءِ لِمَكَانِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَحُجَّةٌ لِلْأُمَّةِ لِمَكَانِ الْعِصْمَةِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ يَحْصُلُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُنْضَبِطٍ مَعَ أَنَّهُ وَاقِعٌ وَقَدْ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: مُحَدَّثُونَ: مُلْهَمُونَ.
وَمِنْ هَذَا الْوَحْيِ مَرَائِي الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهَا وَحْيٌ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِكَلَامٍ يُلْقَى إِلَيْهِمْ،
فَفِي الحَدِيث «إِنِّي رَأَيْت دَارَ هِجْرَتِكُمْ وَهِيَ فِي حَرَّةٍ ذَاتِ نَخْلٍ فَوَقَعَ فِي وَهْلِي أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ طَابَةُ»
. وَقَدْ تَشْتَمِلُ الرُّؤْيَا عَلَى إِلْهَامٍ وَكَلَامٍ مِثْلَ
حَدِيثِ «رَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ وَرَأَيْتُ وَاللَّهُ خَيْرٌ»
فِي رِوَايَةِ رَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ رَأَيْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَقَدْ أول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَاهُ الْبَقَرَ الَّتِي تُذْبَحُ بِمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَمَّا «وَاللَّهُ خَيْرٌ» فَهُوَ مَا أَتَى اللَّهُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute