نَبِيءٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا يُقَارِنُ اسْتِهْزَاؤُهُمْ إِتْيَانَ ذَلِكَ النَّبِيءِ إِلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نبيء إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا الْحَالُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ. وَجُمْلَةُ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً تَفْرِيعٌ وَتَسَبُّبٌ عَنْ جُمْلَةِ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ.
وَضَمِيرُ أَشَدَّ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمٍ مُسْرِفِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ خِطَابُهُمْ فَعَدَلَ عَنِ اسْتِرْسَالِ خِطَابِهِمْ إِلَى تَوْجِيهِهِ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ وَوَعْدُهُ بِالنَّصْرِ. وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينِ كَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ يَبْلُغُهُمْ هَذَا الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ تَغْيِيرَ أُسْلُوبِ الْإِضْمَارِ تَبَعًا لِتَغْيِيرِ الْمُوَاجَهَةِ بِالْكَلَامِ لَا يُنَافِي اعْتِبَارَ الِالْتِفَاتِ فِي الضَّمِيرِ لِأَنَّ مَنَاطَ الِالْتِفَاتِ هُوَ اتِّحَادُ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ مَعَ تَأَتِّي الِاقْتِصَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِضْمَارِ الْأُولَى، وَهَلْ تَغْيِيرُ تَوْجِيهِ الْكَلَامِ إِلَّا تَقْوِيَةٌ لِمُقْتَضَى نَقْلِ الْإِضْمَارِ، وَلَا تَفُوتُ النُّكْتَةُ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْ الِالْتِفَاتِ وَهِيَ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ بَلْ تَزْدَادُ قُوَّةً بِازْدِيَادِ مُقْتَضَيَاتِهَا.
وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» ظَاهِرٌ فِي أَنَّ نَقْلَ الضَّمِيرِ هُنَا الْتِفَاتٌ وَعَلَى ذَلِكَ قَرَّرَهُ شَارِحُوهُ، وَلَكِن الْعَلامَة التفتازانيّ قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ مِنْ الِالْتِفَاتِ فِي شَيْءٍ اهـ. وَلَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُوَاجَهَةِ بِالْكَلَامِ الْوَاقِعِ فِيهِ الضَّمِيرَانِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى غَيْرُ طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» فِيهِ احْتِمَالٌ، وَخُصُوصِيَّاتُ الْبَلَاغَةِ وَاسِعَةُ الْأَطْرَافِ. وَالَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ بَطْشًا مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ: هُمُ الَّذِينَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِ الْأَوَّلِينَ وَوُصِفُوا بِأَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِمَنْ يَأْتِيهم من نبيء. وَهَذَا تَرْتِيب بَدِيعٌ فِي الْإِيجَازِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً يَقْتَضِي كَلَامًا مَطْوِيًّا تَقْدِيرُهُ: فَلَا نَعْجِزُ عَن إهلاك هَؤُلَاءِ الْمُسْرِفِينَ وَهُمْ أَقَلُّ بَطْشًا.
وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ
[مُحَمَّد: ١٣] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute