للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الزخرف: ٩] الْآيَةَ وَجُمْلَةِ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: ١٥] الْآيَةَ.

وَاسْمُ الْمَوْصُولِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ وَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْوَارِدِ عَلَى مُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي تَسْمِيَةِ السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَاجْتِلَابُ الْمَوْصُولِ لِلِاشْتِهَارِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ فَسَاوَى الِاسْمَ الْعَلَمَ فِي الدَّلَالَةِ.

وَذُكِرَتْ صِلَتَانِ فِيهِمَا دَلَالَةٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَعَلَى النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ أُقْحِمَ لَفْظُ لَكُمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ: الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ مِهَادًا وَجَعَلَ فِيهَا سُبُلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: ٦، ٧] لِأَنَّ ذَلِكَ مَقَامُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَسِيقَ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِإِنْشَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ إِعَادَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا شَيْئًا عَجِيبًا.

وَلَمْ يُكَرِّرِ اسْمَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لِأَنَّ الصِّلَتَيْنِ تَجْتَمِعَانِ فِي الْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ إِذْ كِلْتَاهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ فَجَعْلُهُمَا كَجَعْلٍ وَاحِدٍ. وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ الْأَحَدَ عَشَرَ الْوَاقِعَةُ فِي الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْله مُقْرِنِينَ [الزخرف: ١٠- ١٣] لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.

وَالْمِهَادُ: اسْمٌ لِشَيْءٍ يُمَهَّدُ، أَيْ يُوَطَّأُ وَيُسَهَّلُ لِمَا يَحِلُّ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤١] . وَوَجْهُ الِامْتِنَانِ أَنَّهُ جَعَلَ ظَاهِرَ الْأَرْضِ مُنْبَسِطًا وَذَلِكَ الِانْبِسَاطُ لِنَفْعِ الْبَشَرِ السَّاكِنِينَ عَلَيْهَا. وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ جِسْمَ الْأَرْضِ كُرَوِيٌّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ كُرَوِيَّتَهَا لَيْسَتْ مَنْفَعَةً لِلنَّاسِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ مَهْداً بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ الْهَاءِ وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ الْمِهَادُ.

وَالسُّبُلُ: جَمْعُ سَبِيلٍ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، وَيُطْلَقُ السَّبِيلُ عَلَى وَسِيلَةِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: ٤٤] . وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ هُنَا لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ طُرُقًا يُمْكِنُ سُلُوكُهَا، وَهِيَ السُّهُولُ وَسُفُوحُ الْجِبَالِ وَشِعَابُهَا، أَيْ لَمْ يَجْعَلِ الْأَرْضَ كُلَّهَا