للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صِدْقُهُ وَإِصَابَتُهُ، فَاسْتِحْضَارُهُ يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ بَسْطِ الْحُجَّةِ لَهُ.

وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لِأَنَّ جَعْلَهُ كَلِمَةَ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف: ٢٦] بَاقِيَةً فِي عقبه، أَرَادَ مِنْهُ مَصَالِحَ لِعَقِبِهِ مِنْهَا أَنَّهُ رَجَا بِذَلِكَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِنْ فُتِنُوا بِعِبَادَتِهَا أَوْ يَتَذَكَّرُوا بِهَا الْإِقْلَاعَ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِنْ عَبَدُوهَا، فَمَعْنَى الرُّجُوعِ، الْعَوْدُ إِلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَلِمَةُ.

وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: ٤٨] ، أَيْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ.

فَحَرْفُ (لَعَلَّ) لِإِنْشَاءِ الرَّجَاءِ، وَالرَّجَاءُ هَنَا رَجَاءُ إِبْرَاهِيمَ لَا مَحَالَةَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يُقَدَّرَ مَعْنَى قَوْلٍ صَادِرٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِإِنْشَاءِ رَجَائِهِ، بِأَنْ يُقَدَّرَ: قَالَ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَوْ قَائِلًا: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَالرُّجُوعُ مُسْتَعَارٌ إِلَى تَغْيِيرِ اعْتِقَادٍ طَارِئٍ بِاعْتِقَادٍ سَابِقٍ، شَبَّهَ تَرْكَ الِاعْتِقَادِ الطَّارِئِ وَالْأَخْذَ بِالِاعْتِقَادِ السَّابِقِ بِرُجُوعِ الْمُسَافِرِ إِلَى وَطَنِهِ أَوْ رُجُوعِ السَّاعِي إِلَى بَيْتِهِ.

وَالْمَعْنَى: يَرْجِعُ كُلُّ مَنْ حَادَ عَنْهَا إِلَيْهَا، وَهَذَا رَجَاؤُهُ قَدْ تَحَقَّقَ فِي بَعْضِ عَقِبِهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة:

١٢٤] أَيِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَعَلَّ مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِيهِ رَجَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَمُودُ نَسَبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ دِينَهُمْ تَقِيَّةً مِنْ قَوْمِهِمْ، وَقَدْ بَسَطْتُ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِي أَحْوَالِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي رِسَالَةِ «طَهَارَةِ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ مِنَ النَّقَائِصِ» (١) .

وَفِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ كَانَتْ غَيْرَ مَجْهُولَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيَتَّجِهُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ كَانَتْ بَالِغَةً لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ بِمَا تَنَاقَلُوهُ مِنْ أَقْوَالِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ، وَمِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ الْعَرَبُ، فَيَتَّجِهُ مُؤَاخَذَةُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِشْرَاكِ قَبْلَ بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا النَّظَرَ فِيمَا هُوَ شَائِعٌ بَيْنَهُمْ أَوْ تَغَافَلُوا عَنْهُ أَوْ أَعْرَضُوا. فَيَكُونُ أَهْلُ الْفَتْرَةِ مُؤَاخَذِينَ عَلَى نَبْذِ


(١) نشرت فِي مجلة........ بِبَغْدَاد سنة.