وَالْكَرَّةُ الرَّجْعَةُ إِلَى مَحَلٍّ كَانَ فِيهِ الرَّاجِعُ وَهِيَ مَرَّةٌ مِنَ الْكَرِّ وَلِذَلِكَ تُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا لِأَنَّهُ رُجُوعٌ لِمَكَانٍ سَابِقٍ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ (الْكَرَّةِ) هُنَا لِظُهُورِهِ.
وَالْكَافُ فِي كَمَا تَبَرَّءُوا لِلتَّشْبِيهِ اسْتُعْمِلَتْ فِي الْمُجَازَاةِ لِأَنَّ شَأْنَ الْجَزَاءِ أَنْ يُمَاثِلَ الْفِعْلَ الْمَجَازَى قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠] ، وَهَذِهِ الْكَافُ قَرِيبَةٌ مِنْ كَافِ التَّعْلِيلِ أَوْ هِيَ أَصْلُهَا وَأَحْسَنُ مَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ قَوْلُ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ:
أَهُزُّ بِهِ فِي نَدْوَةِ الْحَيَّ عِطْفَهُ ... كَمَا هَزَّ عِطْفِي بِالْهِجَانِ الْأَوَارِكِ
وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْكَافِ وَبَيْنَ كَافِ التَّعْلِيلِ أَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَهَا إِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ الْمُشَبَّهِ كَمَا فِي الْآيَةِ وَبَيْتِ أَبِي كَبِيرٍ جُعِلَتْ لِلْمُجَازَاةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ وَمَا بَعْدَ الْكَافِ بَاعِثٌ عَلَى الْمُشَبَّهِ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة:
١٩٨] .
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يَعُودُوا إِلَى الدُّنْيَا بعد مَا عَلِمُوا الْحَقِيقَةَ وَانْكَشَفَ لَهُمْ سُوءُ صَنِيعِهِمْ فَيَدْعُوهُمُ الرُّؤَسَاءُ إِلَى دِينِهِمْ فَلَا يُجِيبُونَهُمْ لِيُشْفُوا غَيْظَهُمْ مِنْ رُؤَسَائِهِمُ الَّذِينَ خَذَلُوهُمْ وَلِتَحْصُلَ لِلرُّؤَسَاءِ خَيْبَةٌ وَانْكِسَارٌ كَمَا خَيَّبُوهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
فَإِنْ قُلْتَ هُمْ إِذَا رَجَعُوا رَجَعُوا جَمِيعًا عَالِمِينَ بِالْحَقِّ فَلَا يَدْعُوهُمُ الرُّؤَسَاءُ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ حَتَّى يَمْتَنِعُوا مِنْ إِجَابَتِهِمْ، قُلْتُ بَابُ التَّمَنِّي وَاسْعٌ فَالْأَتْبَاعُ تَمَنَّوْا أَنْ يَعُودُوا إِلَى الدُّنْيَا عَالِمِينَ بِالْحَقِّ وَيَعُودَ الْمَتْبُوعُونَ فِي ضَلَالِهِمُ السَّابِقِ وَقَدْ يُقَالُ اتَّهَمَ الْأَتْبَاعُ مَتْبُوعِيهِمْ بِأَنَّهُمْ أَضَلُّوهُمْ عَلَى بَصِيرَةٍ لِعِلْمِهِمْ غَالِبًا وَالْأَتْبَاعُ مَغْرُورُونَ لِجَهْلِهِمْ فَهُمْ إِذَا رَجَعُوا جَمِيعًا إِلَى الدُّنْيَا رَجَعَ الْمَتْبُوعُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّضْلِيلِ عَلَى عِلْمٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا رَأَوْهُ يَوْمَ الْقِيَامَة لم يزعهم لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ مُوقِنِينَ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ وَرَجَعَ الْأَتْبَاعُ عَالِمِينَ بِمَكْرِ الْمَتْبُوعِينَ فَلَا يُطِيعُونَهُمْ.
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِقِصَّةِ تَبَرِّي الْمَتْبُوعِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ لِلْإِرَاءَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ يُرِيهِمُ عَلَى أُسْلُوبِ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute