طُرُوِّ الِاخْتِلَافِ
بَيْنَ أَتْبَاعِهِ مَعَ وُجُودِ الشَّرِيعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ مِثْلِهِ كَأَنَّهُ حَدَثَ عَقِبَ بَعْثَةِ عِيسَى وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا زَمَانٌ طَوِيلٌ دَبَّتْ فِيهِ بِدْعَتُهُمْ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ شَائِعٌ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى أَنْ تَكُونَ قَرِينَةُ الْمَجَازِ مَانِعَةً مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَحْدَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ أَجْمَلُ هُنَا وَوَقَعَ تَفْصِيلُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا تَلَقَّى بِهِ الْيَهُودُ دَعْوَةَ عِيسَى، وَآيَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا أَحْدَثَهُ النَّصَارَى فِي دِينِ عِيسَى مِنْ زَعْمِ بُنُوَّتِهِ مِنَ اللَّهِ وَإِلَهِيَّتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِهِمْ ابْتِدَائِيَّةً مُتَعَلِّقَةً بِ (اخْتَلَفَ) أَيْ نَشَأَ الِاخْتِلَافُ مِنْ بَيْنِهِمْ دُونَ أَنْ يُدْخِلَهُ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ، أَيْ كَانَ دِينُهُمْ سَالِمًا فَنَشَأَ فِيهِمْ الِاخْتِلَافُ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَخْتَصُّ الْخِلَافُ بِأَتْبَاعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ النَّصَارَى إِذِ اخْتَلَفُوا فِرَقًا وَابْتَدَعُوا قَضِيَّةَ بُنُوَّةِ عِيسَى مِنَ اللَّهِ فَتَكُونُ الْفَاءُ خَالِصَةً لِلتَّعْقِيبِ الْمَجَازِيِّ.
وَفُرِّعَ عَلَى ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ تَهْدِيدٌ بِوَعِيدٍ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَفْرِيعُ التَّذْيِيلِ عَلَى الْمُذَيَّلِ، فَالَّذِينَ ظَلَمُوا يَشْمَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣] ، وَهَذَا إِطْلَاقُ الظُّلْمِ غَالِبًا فِي الْقُرْآنِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْأَحْزَابِ أَفْضَى بِهِمْ أَنْ صَارَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ مِنْ لُزُومِ مُنَاسَبَةِ التَّذْيِيلِ لِلْمُذَيَّلِ، بِأَنْ يَكُونَ التَّذْيِيلُ يَعُمُّ الْمُذَيَّلَ وَغَيْرَهُ فَيَشْمَلُ عُمُومُ هَذَا التَّذْيِيلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْمَقْصُودِينَ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثَالِ وَالْعِبَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٣٧] قَوْلُهُ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَجُعِلَتِ الصِّلَةُ فِعْلَ كَفَرُوا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ آيَةِ سُورَةِ مَرْيَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّصَارَى وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ بِقَوْلِهِ: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مَرْيَم: ٣٨] لَمَّا أُرِيدَ التَّخَلُّصُ إِلَى إِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إنذار النَّصَارَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute