وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ بِاسْتِمْرَارٍ وَهُوَ مُنَافٍ
لِحَدِيثِ «اطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ»
عَلَى كُلِّ احْتِمَالٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ مُعْتَرِضَةٌ. وَحَرْفُ (إِنَّ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّأْكِيدِ رَدًّا لِإِنْكَارِهِمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْسَلَ رُسُلًا لِلنَّاسِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَنْكَرُوا رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ رَسُولًا مِنَ الْبَشَرِ قَالَ تَعَالَى: إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] ، فَكَانَ رَدُّ إِنْكَارِهِمْ ذَلِكَ رَدًّا لِإِنْكَارِهِمْ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ مُسْتَأْنَفَةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (إِنَّ) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ فَتَكُونُ مُغْنِيَةً غِنَاءَ فَاءِ التَّسَبُّبِ فَتُفِيدُ تَعْلِيلًا، فَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ أَنْزَلْناهُ أَيْ أَنْزَلْنَاهُ لِلْإِنْذَارِ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ شَأْنُنَا، فَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ عِلَّةُ الْعِلَّةِ وَهُوَ إِيجَازٌ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى وَصْفِ مُنْذِرِينَ مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنْذِرٌ وَمُبَشِّرٌ اهْتِمَامًا بِالْإِنْذَارِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى حَالِ جُمْهُورِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، وَالْإِنْذَارُ يَقْتَضِي التَّبْشِيرَ لِمَنِ انْتَذَرَ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ مُنْذِرِينَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ عَلَيْهِ، أَيْ مُنْذِرِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ.
وَجُمْلَةُ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ تَنْكِيرِ لَيْلَةٍ.
وَوَصْفُهَا بِ مُبارَكَةٍ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا فَدَلَّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَاتِهِ اللَّيْلَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا ظَهَرَ فِيهَا إِنْزَالُ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا يُفَرَقُ عِنْدَ اللَّهِ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ مُحَسِّنُ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، فَفِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ لَفٌّ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ أَوَّلُهُمَا: تَعْيِينُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَثَانِيهِمَا: اخْتِصَاصُ تَنْزِيلِهِ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ثُمَّ عَلَّلَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ بِجُمْلَةِ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، وَعَلَّلَ الْمَعْنَى الثَّانِي بِجُمْلَةِ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ.
وَالْمُنْذِرُ: الَّذِي يُنْذِرُ، أَيْ يُخْبِرُ بِأَمْرٍ فِيهِ ضُرٍّ لِقَصْدِ أَنْ يَتَّقِيَهُ الْمُخْبَرُ بِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٩] .
وَالْفَرْقُ: الْفَصْلُ وَالْقَضَاءُ، أَيْ فِيهَا يُفْصَلُ كُلُّ مَا يُرَادُ قَضَاؤُهُ فِي النَّاسِ وَلِهَذَا يُسَمَّى الْقُرْآنُ فُرْقَانًا، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute