التَّشْرِيعَاتِ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ رَبِّهِ، أَيْ بِوَاسِطَتِهِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِرْسَالُ رَحْمَةً كَانَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٧] ، وَيُعْلَمُ مِنْ كَوْنِهِ ربّ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ كُلِّهِمْ إِذْ لَا يَكُونُ الرَّبُّ رَبَّ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فَأَغْنَى عَنْ أَنْ يَقُولَ:
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَرَبِّهِمْ، لِأَنَّ غَرَضَ إِضَافَةِ رَبِّ إِلَى ضمير الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْبَى ذَلِكَ، ثُمَّ سَيُصَرِّحُ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ فِي قَوْلِهِ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الدُّخان: ٨] وَهُوَ مَقَامٌ آخَرُ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أَيْ كُنَّا مُرْسَلِينَ رَحْمَةً بِالنَّاسِ لِأَنَّهُ عَلِمَ عِبَادَةَ الْمُشْرِكِينَ لِلْأَصْنَامِ وَعلم إغواء أيمة الْكُفْرِ لِلْأُمَمِ وَعَلِمَ ضَجِيجَ النَّاسِ مِنْ ظُلْمِ قَوِيِّهِمْ ضَعِيفَهُمْ وَعَلِمَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَأَرْسَلَ الرُّسُلَ لِتَقْوِيمِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ وَعَلِمَ أَيْضًا نَوَايَا النَّاسِ وَأَفْعَالَهُمْ وَإِفْسَادَهُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَرْسَلَ الرُّسُلَ بِالشَّرَائِعِ لِكَفِّ النَّاسِ عَنِ الْفَسَادِ وَإِصْلَاحِ عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَأُشِيرَ إِلَى عِلْمِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ
بِوَصْفِ السَّمِيعُ لِأَنَّ السَّمِيعَ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ الْأَقْوَالَ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ. وَأُشِيرَ إِلَى عِلْمِ النَّوْعِ الثَّانِي بِوَصْفِ الْعَلِيمُ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. وَقَدَّمَ السَّمِيعُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَسْمُوعَاتِ لِأَنَّ أَصْلَ الْكُفْرِ هُوَ دُعَاءُ الْمُشْرِكِينَ أَصْنَامَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّمِيعَ وَالْعَلِيمَ تَعْلِيلَانِ لِجُمْلَةِ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ الرَّمْزِيَّةِ لِأَنَّ عِلَّةَ الْإِرْسَالِ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ إِرَادَةُ الصَّلَاحِ وَرَحْمَةُ الْخَلْقِ. وَأَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ الصِّفَةُ الَّتِي تَجْرِي الْإِرَادَةُ عَلَى وَفْقِهِ، فَالتَّعْلِيلُ بِصِفَةِ الْعِلْمِ بِنَاءً عَلَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكِيمٌ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، فَإِذَا كَانَ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ وَكَانَ عَلِيمًا بِتَصَرُّفَاتِ الْخَلْقِ كَانَ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ مُقْتَضِيَيْنِ أَنْ يُرْسِلَ لِلنَّاسِ رُسُلًا رَحْمَةً بِهِمْ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَفَادَ الْحَصْرَ، أَيْ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لَا أَصْنَامُكُمُ الَّتِي تَدْعُونَهَا. وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى الْحَاجَةِ إِلَى إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ بِإِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.
وَفِي وَصْفِ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تَعْرِيض بالتهديد.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute