للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لِأَنَّ الدَّبْغَ يُزِيلُ مَا فِي الْجِلْدِ مِنْ تَوَقُّعِ الْعُفُونَةِ الْعَارِضَةِ لِلْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمُذَكَّى فَهُوَ مُزِيلٌ لِمَعْنَى الْقَذَارَةِ وَالْخَبَاثَةِ الْعَارِضَتَيْنِ لِلْمَيْتَةِ.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الْمَيْتَةِ مَيْتَةُ الْحُوتِ وَنَحْوِهِ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ الَّتِي لَا تَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [الْمَائِدَة: ٩٦] فِي سُورَةِ الْعُقُودِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ فِيمَا أَرَى هِيَ أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَمُوتُ غَالِبًا إِلَّا وَقَدْ أُصِيبَ بِعِلَّةٍ وَالْعِلَلُ مُخْتَلِفَةٌ وَهِيَ تَتْرُكُ فِي لَحْمِ الْحَيَوَانِ أَجْزَاءً مِنْهَا فَإِذَا أَكَلَهَا الْإِنْسَانُ قَدْ يُخَالِطُ جُزْءًا مِنْ دَمِهِ جَرَاثِيمُ الْأَمْرَاضِ، مَعَ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي فِي الْحَيَوَانِ إِذَا وَقَفَتْ دَوْرَتُهُ غُلِّبَتْ فِيهِ الْأَجْزَاءُ الضَّارَّةُ عَلَى الْأَجْزَاءِ النَّافِعَةِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتِ الذَّكَاةُ لِأَنَّ الْمُذَكَّى مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ غَالِبًا وَلِأَنَّ إِرَاقَةَ الدَّمِ الَّذِي فِيهِ تَجْعَلُ لَحْمَهُ نَقِيًّا مِمَّا يُخْشَى مِنْهُ أَضْرَارٌ.

وَمِنْ أَجْلِ هَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْجَنِينِ: أَنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ (١) لِأَنَّهُ لِاتِّصَالِهِ بِأَجْزَاءِ أَمِّهِ صَارَ اسْتِفْرَاغُ دَمِ أُمِّهِ اسْتِفْرَاغًا لِدَمِهِ وَلِذَلِكَ يَمُوتُ بِمَوْتِهَا فَسَلِمَ مِنْ عَاهَةِ الْمَيْتَةِ وَهُوَ مَدْلُولُ

الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ»

وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُؤْكَلُ الْجَنِينُ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا فَاعْتَبَرَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ لَمْ يُذَكَّ، وَتَنَاوَلَ الْحَدِيثُ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي تَأْيِيدِ مَذْهَبِ مَالِكٍ لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا.

وَقَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْحُوتِ الْجَرَادَ تُؤْكَلُ مَيْتَتُهُ لِأَنَّهُ تَتَعَذَّرُ ذَكَاتُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ وَابْن عبد الحكم مِنَ الْمَالِكِيَّةِ تَمَسُّكًا بِمَا

فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ كُنَّا نَأْكُلُ الْجَرَادَ مَعَهُ»

اه.

وَسَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِنَأْكُلُ أَمْ كَانَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حَالا من ضمير «كُنَّا» فَهُوَ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ إِمَّا بِأَكْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ وَإِمَّا بِتَقْرِيرِهِ ذَلِكَ فَتُخَصُّ بِهِ الْآيَةُ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَمَّا

حَدِيثُ «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ»

فَلَا يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» (٢) ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ إِلَّا أَنْ يُذَكَّى ذَكَاةَ أَمْثَالِهِ كَالطَّرْحِ فِي المَاء السخن أَوْ قَطْعِ مَا لَا يَعِيشُ بِقطعِهِ.

وَلَعَلَّ مَالك رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَضْعَفَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الِاضْطِرَارِ فِي السَّفَرِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَصْنَعُونَ بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَ الذَّكَاةِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إِنَّ ضَمَّ

الْجَرَادِ فِي غَرَائِرَ


(١) الْمصدر السَّابِق (١/ ٤٤٢) ، دَار الْمعرفَة.
(٢) وَابْن رشد أَيْضا كَمَا فِي الْمصدر السَّابِق (١/ ٨٠) ، دَار الْمعرفَة، وَقَالَ فِي (١/ ٤٦٧) ، دَار الْمعرفَة: «هَذَا الحَدِيث فِي غَالب ظَنِّي لَيْسَ هُوَ فِي الْكتب الْمَشْهُورَة من كتب الحَدِيث» . [.....]