وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ. وَأَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يُصَدِّقُونَهُ لِتَسْجِيلِ بُلُوغِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِيَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ يَهْتَدِي وَلِتُكْتَبَ تَبِعَتُهُ عَلَى الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أرسل مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِنِّ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْجِنَّ حَضَرُوا بِعِلْمٍ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِدُونِ عِلْمِهِ.
فَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَا قَرَأَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ فَلَمَّا كَانُوا بِنَخْلَةَ، اسْمُ مَوْضِعٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَكَانَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فِيهِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا» .
وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «افتقدنا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَقُلْنَا مَا فُعِلَ بِهِ اغْتِيلَ أَوْ وَاسْتُطِيرَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ حَتَّى إِذَا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ بِهِ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ فَقَالَ «أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَأَتَيْتُهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ»
. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذَا الْحَادِثُ خَارِقُ عَادَةٍ وَهُوَ معْجزَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٠] .
وَالصَّرْفُ: الْبَعْثُ. وَالنَّفَرُ: عَدَدٌ مِنَ النَّاسِ دُونَ الْعِشْرِينَ. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْجِنِّ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْإِنْسِ وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْجِنِّ.
وَجُمْلَةُ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْجِنِّ وَحَيْثُ كَانَتِ الْحَالُ قَيْدًا لِعَامِلِهَا وَهُوَ صَرَفْنا كَانَ التَّقْدِيرُ: يَسْتَمِعُونَ مِنْكَ إِذا حَضَرُوا لديك فَصَارَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا مُؤَدَّى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. فَالْمَعْنَى: صَرَفْنَاهُمْ إِلَيْكَ لِيَسْتَمِعُوا الْقُرْآنَ.
وَضَمِيرُ حَضَرُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ حَضَرُوا إِلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ تَعْدِيَةٌ
مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا حَضَرُوا قَارِئَ الْقُرْآنِ وَهُوَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأَنْصِتُوا أَمْرٌ بِتَوْجِيهِ الْأَسْمَاعِ إِلَى الْكَلَامِ اهْتِمَامًا بِهِ لِئَلَّا يَفُوتَ مِنْهُ شَيْء. و