الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ التَّوْسِعَةُ فِي نَحْوِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً [النِّسَاء: ١٤٨] أَنْ يَقْرَأَ عَلِيمًا حَكِيمًا مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْمُنَاسَبَةِ كَذِكْرِهِ عَقِبَ آيَةِ عَذَابٍ أَنْ يَقُولَ: «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» أَوْ عَكْسَهُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَأَمَّا الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْحَدِيثَ مُحْكَمًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ فَقَدْ ذَهَبُوا فِي تَأْوِيلِهِ مَذَاهِبَ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَحْرُفِ أَنْوَاعُ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَوْ أَنْوَاعُ كَلَامِهِ كَالْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ، وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. أَوْ أَنْوَاعُ دَلَالَتِهِ كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِ مِنْ قَصْدِ التَّوْسِعَةِ وَالرُّخْصَةِ. وَقَدْ تَكَلَّفَ هَؤُلَاءُ حَصْرَ مَا زَعَمُوهُ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَنَحْوِهَا فِي سَبْعَةٍ فَذَكَرُوا كَلَامًا لَا يَسْلَمُ مِنَ النَّقْضِ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ وَثَعْلَبٌ وَالْأَزْهَرِيُّ وَعُزِيَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أُنْزِلَ مُشْتَمِلًا عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ مَبْثُوثَةٍ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لَكِنْ لَا عَلَى تَخْيِيرِ الْقَارِئِ، وَذَهَبُوا فِي تَعْيِينِهَا إِلَى نَحْوِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ إِلَّا أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَنَّ الْأَوَّلِينَ ذَهَبُوا إِلَى تَخْيِيرِ الْقَارِئِ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَؤُلَاءِ أَرَادُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مَبْثُوثَةٌ فِيهِ كَلِمَاتٌ مِنْ تِلْكَ اللُّغَاتِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا سَمِعْتُ السِّكِّينَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً [يُوسُف: ٣١] مَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةَ (١) ، وَفِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا من النَّبِي فِي قِصَّةِ حُكْمِ سُلَيْمَانَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ: (ايْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَقْطَعْهُ بَيْنَكُمَا) ، وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يُلَاقِي مَسَاقَ الْحَدِيثِ مِنَ التَّوْسِعَةِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ ذَكَرُوا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ لُغَاتِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأَنْهَاهَا السُّيُوطِيُّ نَقْلًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَاسِطِيِّ إِلَى خَمْسِينَ لُغَةٍ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَحْرُفِ لَهَجَاتُ الْعَرَبِ فِي كَيْفِيَّاتِ النُّطْقِ كَالْفَتْحِ وَالْإِمَالَةِ، وَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَالْهَمْزِ وَالتَّخْفِيفِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةٌ لِلْعَرَبِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ لمن تقدّمنا، وَهنا لَك أَجْوِبَةٌ أُخْرَى
ضَعِيفَةٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ التَّعْرِيجُ عَلَيْهَا وَقَدْ أَنْهَى بَعْضُهُمْ جُمْلَةَ الْأَجْوِبَةِ إِلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ جَوَابًا.
(١) رَوَاهُ ابْن وهب عَن مَالك، وَهُوَ فِي أَحَادِيث ابْن وهب عَنهُ فِي جَامع الْعُتْبِيَّة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute