وَعَطْفُ وَتَدْعُوا عَلَى تَهِنُوا فَهُوَ مَعْمُولٌ لِحَرْفِ النَّهْيِ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَهُوَ عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الدُّعَاء إِلَى السّلم مَعَ الْمَقْدِرَةِ مِنْ طَلَبِ الدَّعَةِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ. وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ اسْتِبْقَاءِ النُّفُوسِ وَالْعِدَةِ بالاستراحة من عدوان الْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا مُتَكَالِبِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَرُبَّمَا ظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ إِنْ تَدَاعَوْا مَعَهُمْ لِلسَّلْمِ أَمِنُوا مِنْهُمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ فُرْصَةً لِيَنُشُّوا الدَّعْوَةَ فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالْمَضَرَّةِ لِأَنَّهُ يَحُطُّ مِنْ شَوْكَتِهِمْ فِي نَظَرِ الْمُشْرِكِينَ فَيَحْسَبُونَهُمْ طَلَبُوا السَّلْمَ عَنْ ضَعْفٍ فَيَزِيدُهُمْ ذَلِكَ ضَرَاوَةً عَلَيْهِمْ وَتَسْتَخِفُّ بِهِمْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ بَعْدَ أَنْ أَخَذُوا مِنْ قُلُوبِهِمْ مَكَانَ الْحُرْمَةِ وَتَوَقُّعِ الْبَأْسِ.
وَلِهَذَا الْمَقْصِدِ الدَّقِيقِ جُمِعَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْوَهَنِ وَالدُّعَاءِ إِلَى السَّلْمِ وَأُتْبِعَ بِقَوْلِهِ:
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ.
فَتَحَصَّلَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى السَّلْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ هُوَ طلب المسالمة مِنَ الْعَدُوِّ فِي حَالِ قُدْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَخَوْفِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ، فَهُوَ سَلْمٌ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ دَاعِينَ لَهُ وَبِكَوْنِهِ عَنْ وَهَنٍ فِي حَالِ قُوَّةٍ. قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ لَا تَكُونُوا أَوَّلَ الطَّائِفَتَيْنِ ضَرِعَتْ إِلَى صَاحِبَتِهَا.
فَهَذَا لَا يُنَافِي السَّلْمَ الْمَأْذُونَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٦١] ، فَإِنَّهُ سَلْمٌ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِآيَةِ الْأَنْفَالِ وَلَا الْعَكْسَ وَلِكُلٍّ حَالَةٌ خَاصَّةٌ، وَمُقَيَّدٌ بِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالَةِ قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ وَعِدَّةٍ بِحَيْثُ يَدْعُونَ إِلَى السَّلْمِ رَغْبَةً فِي الدَّعَةِ. فَإِذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي السَّلْمِ أَوْ كَانَ أَخَفَّ ضُرًّا عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ أَنْ يَبْتَدِئُوا إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ وَأَنْ يُجِيبُوا إِلَيْهِ إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ.
وَقَدْ صَالح النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لِمَصْلَحَةٍ ظَهَرَتْ فِيمَا بَعْدُ، وَصَالَحَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوِهِمْ إفريقية أَهلهَا وانكفأوا رَاجِعِينَ إِلَى مِصْرَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كَلَامٍ لَهُ مَعَ بَعْضِ أُمَرَاءِ الْجَيْشِ «فَقَدْ آثَرْتُ سَلَامَةَ الْمُسْلِمِينَ» . وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الْأَرْضِ مَعَ فَتْحِهَا فَذَلِكَ لَا يُنَافِي قُوَّةَ الْفَاتِحِينَ كَمَا صَالَحَ أُمَرَاءُ أَبِي بَكْرٍ نِصْفَ أَهْلِ دِمَشْقَ وَكَمَا صَالَحَ أُمَرَاءُ عمر أهل سود الْعِرَاقِ وَكَانُوا أَعْلَمَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute