فَذَلِكَ نَصْرٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ انْهِزَامِ الْعَدُوِّ أَشْنَعَ هَزِيمَةٍ وَعَجْزِهِ عَنِ الدِّفَاعِ عَنْ أَرْضِهِ. وَأُطْلِقَ الْفَتْحُ عَلَى الْحُكْمِ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الْآيَةَ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ [٢٨] .
وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هَنَا فَتْحُ مَكَّةَ وَأَنَّ مَحْمَلَهُ عَلَى الْوَعْدِ بِالْفَتْحِ. وَالْمَعْنَى: سَنَفْتَحُ. وَإِنَّمَا جِيءَ فِي الْأَخْبَارِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِهِ وَتَيَقُّنِهِ، شُبِّهَ الزَّمَنُ الْمُسْتَقْبَلُ بِالزَّمَنِ الْمَاضِي فَاسْتُعْمِلَتْ لَهُ الصِّيغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلْمُضِيِّ. أَوْ نَقُولُ اسْتُعْمِلَ فَتَحْنا بِمَعْنَى: قَدَّرْنَا لَكَ الْفَتْحَ، وَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ كَلَامُ مِنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْأَشْيَاءِ لَا يَحْجِزُهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا مَانِعٌ. وَقَدْ جَرَى عَلَى عَادَةِ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي إِخْبَارِهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ عُلُوِّ شَأْنِ الْمُخْبِرِ مَثْلُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: ١] .
وَمَا يَنْدَرِجُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِفَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا كُنَّا نَعُدُّ فَتْحَ مَكَّةَ إِلَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِوُقُوعِ فَتْحِ مَكَّةَ بِهَذَا الْوَعْدِ، وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ «تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحُ مَكَّةَ وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ» ، يُرِيدُ أَنَّكُمْ تَحْمِلُونَ الْفَتْحَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً عَلَى فتح مَكَّة وَلكنه فَتْحِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَإِنْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَتْحِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَحْمَلَ
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ
«قَرَأَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سُورَةَ الْفَتْحِ»
،
وَفِي رِوَايَةٍ «دَخَلَ مَكَّةَ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ»
. عَلَى أَنَّ قَرَائِنَ كَثِيرَةً تُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: أُولَاهَا أَنَّهُ جَعَلَهُ مُبِينًا.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ جَعَلَ عِلَّتَهُ (النَّصْرَ الْعَزِيزَ) الثَّانِيَةَ، وَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ عِلَّةً لِنَفْسِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute