الْقَطْعَ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ الْإِعْرَابِ، فَأَمَّا النَّصْبُ فَبِتَقْدِيرِ فِعْلِ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، وَالْأَظْهَرُ تَقْدِيرُ فِعْلِ أَخُصُّ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمَدْحَ بَيْنَ الْمَمْدُوحِينَ وَالذَّمَّ بَيْنَ الْمَذْمُومِينَ.
وَقَدْ حَصَلَ بِنَصْبِ (الصَّابِرِينَ) هُنَا فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ قَطْعٍ مِنَ النُّعُوتِ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَتِ الصِّفَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُخَالَفَ إِعْرَابُهَا وَلَا تُجْعَلَ كُلُّهَا جَارِيَةً عَلَى مَوْصُوفِهَا لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ الْإِطْنَابِ فَإِذَا خُولِفَ إِعْرَابُ الْأَوْصَافِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلَامِ وَضُرُوبٌ مِنَ الْبَيَانِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ كَسَّرَهُ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَمْثِلَة وشواهد» اهـ. قُلْتُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا يَنْتَصِبُ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ (١) «وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ صِفَةً فَجَرَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ شِئْتَ قَطَعْتَهُ فَابْتَدَأْتَهُ، مِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَى قَوْلِهِ وَالصَّابِرِينَ وَلَوْ رُفِعَ الصَّابِرِينَ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ كَانَ جَيِّدًا، وَلَوِ ابْتَدَأْتَهُ فَرَفَعْتَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ كَانَ جَيِّدًا، وَنَظِيرُ هَذَا النَّصْبِ قَوْلُ الْخِرْنِقِ:
لَا يَبْعَدَنْ قومِي الَّذين همو ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ
النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأُزْرِ
بِنَصْبِ النَّازِلِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَزَعَمَ الْخَلِيلُ أَنَّ نَصْبَ هَذَا عَلَى أَنَّكَ لَمْ تُرِدْ أَنْ تُحَدِّثَ النَّاسَ وَلَا مَنْ تُخَاطِبُ بِأَمْرٍ جَهِلُوهُ وَلَكِنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَجَعَلْتَهُ ثَنَاءً وَتَعْظِيمًا وَنَصْبُهُ عَلَى الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قَالَ أَذْكُرُ أَهْلَ ذَلِكَ وَأَذْكُرُ الْمُقِيمِينَ وَلَكِنَّهُ فِعْلٌ لَا يسْتَعْمل إِظْهَاره» اهـ قُلْتُ: يُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ مِثْلُهُ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النِّسَاء: ١٦٢] عَطْفًا عَلَى لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [النِّسَاء: ١٦٢] ، وَفِي سُورَةِ الْعُقُود وَالصَّابِئُونَ [الْمَائِدَة: ٦٩] عَطْفًا عَلَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [الْمَائِدَة: ٦٩] .
الْفَائِدَة الثَّانِيَة أَن فِي نَصْبِ الصَّابِرِينَ بِتَقْدِيرِ أَخُصُّ أَوْ أَمْدَحُ تَنْبِيهًا عَلَى خَصِيصِيَّةِ الصَّابِرِينَ وَمَزِيَّةِ صِفَتِهِمُ الَّتِي هِيَ الصَّبْرُ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا زَعَمُوا مِنْ وُقُوعِهِ لَحْنًا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْكِتَابِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَذَاهِبَ الْعَرَبِ وَمَا لَهُمْ فِي النَّصْبِ عَلَى
(١) رَاجع «الْكتاب» لَهُ (١/ ٢٤٨) ، دَار صادر.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute