وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى نَفْيِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَا عَلَى إِثْبَاتِهِ مِنْ جِهَةِ مَا وَرَدَ عَلَى كُلِّ تَأْوِيلٍ غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ انْتِقَاضٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى، فَتَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ:
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى مَحْمَلُهُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ مُسَاوَاةُ أَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ دُونَ تَفَاضُلٍ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ أَدِلَّةُ الْعُلَمَاءِ فِي تَسْوِيَةِ الْقِصَاصِ بَيْنَ
بَعْضِ الْأَصْنَافِ مَعَ بَعْضٍ الذُّكُورِ بِالْإِنَاثِ وَفِي عَدَمِهَا كَعَدَمِ تَسْوِيَةِ الْأَحْرَارِ بِالْعَبِيدِ عِنْدَ الَّذِينَ لَا يُسَوُّونَ بَيْنَ صِنْفَيْهِمَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَدَاوُدَ أَدِلَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذَا الْقَيْدِ الَّذِي فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَخَذَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: الْقَتْلى وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ مُخَصِّصًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ إِلَّا الْقِصَاصَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَاسْتِثْنَاؤُهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ غَيْرُ مَعْصُومِ الدَّمِ، وَأَمَّا الْمَعَاهَدُ فَفِي حُكْمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ إِيَّاهُ مَذَاهِبُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فَنَفَيَا الْقِصَاصَ مِنَ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ وَأَخَذَا
بِحَدِيثِ «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»
، وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ قَالَا لَا قِصَاصَ مِنَ الْمُسْلِمِ إِذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ وَالْمُعَاهَدَ قَتْلَ عُدْوَانٍ وَأَثْبَتَا الْقِصَاصَ مِنْهُ إِذَا قَتَلَ غِيلَةً.
وَأَمَّا الْقِصَاصُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي قَطْعِ الْأَطْرَافِ فَلَيْسَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الْمَائِدَة: ٤٥] فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. وَنَفَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ الْقِصَاصَ مِنَ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ اسْتِنَادًا لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَسُكُوتِ الصَّحَابَةِ، وَاسْتِنَادًا لِآثَارٍ مَرْوِيَّةٍ، وَقِيَاسًا عَلَى انْتِفَاءِ الْقِصَاصِ مِنَ الْحُرِّ فِي إِصَابَةِ أَطْرَافِ الْعَبْدِ فَالنَّفْسُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ. وَالْقِصَاصُ مِنَ الْعَبْدِ لِقَتْلِهِ الْحُرَّ ثَابِتٌ عِنْدَهُمَا بِالْفَحْوَى، وَالْقِصَاصُ مِنَ الذَّكَرِ لِقَتْلِ الْأُنْثَى ثَابِتٌ بِلَحْنِ الْخِطَابِ.
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ.
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ أَيْ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ لَا لِتَفْرِيعِ حُصُولِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ بِهَا عَلَى حُصُولِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مَا قَبْلَهَا، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ أَخْذَ الْوَلِيِّ بِالْقِصَاصِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ صُوَرِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَقٌّ لَهُ فَقَطْ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ أَنَّ الْأَخْذَ بِهِ وَاجِبٌ عَلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ، وَالتَّصَدِّي لِتَفْرِيعِ ذِكْرِ هَذَا بَعْدَ ذِكْرِ حَقِّ الْقِصَاصِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِالنَّاسِ قَبُولُ الصُّلْحِ اسْتِبْقَاءً لِأَوَاصِرِ أُخُوَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute