للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمَعْرُوفُ الْفِعْلُ الَّذِي تَأْلَفُهُ الْعُقُولُ وَلَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ فَهُوَ الشَّيْءُ الْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ سُمِّيَ مَعْرُوفًا لِأَنَّهُ لِكَثْرَةِ تَدَاوُلِهِ وَالتَّأَنُّسِ بِهِ صَارَ مَعْرُوفًا بَيْنَ النَّاسِ، وَضِدُّهُ يُسَمَّى الْمُنْكَرَ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان: ١١٠] فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.

وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ هُنَا الْعَدْلُ الَّذِي لَا مُضَارَةَ فِيهِ وَلَا يَحْدُثُ مِنْهُ تَحَاسُدٌ بَيْنَ الْأَقَارِبِ بِأَنْ يَنْظُرَ الْمُوصِي فِي تَرْجِيحِ مَنْ هُوَ الْأَوْلَى بِأَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِ لِقُوَّةِ قَرَابَةٍ أَوْ شِدَّةِ حَاجَةٍ، فَإِنَّهُ إِنْ تَوَخَّى ذَلِكَ اسْتَحْسَنَ فِعْلَهُ النَّاسُ وَلَمْ يَلُومُوهُ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الْوَصِيَّةِ أَلَّا تكون للإضرار يوارث أَوْ زَوْجٍ أَوْ قَرِيبٍ وَسَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً [الْبَقَرَة: ١٨٢] .

وَالْبَاءُ فِي (بِالْمَعْرُوفِ) لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْوَصِيَّةِ.

وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ تَقْدِيرُ مَا يُوصِي بِهِ وَتَمْيِيزُ مَنْ يُوصَى لَهُ وَوَكَلَ ذَلِكَ إِلَى نَظَرِ الْمُوصِي فَهُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَى تَرْجِيحِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّرْجِيحِ فِي الْعَطَاءِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ

تَعَالَى: عَلَى الْمُتَّقِينَ.

وَقَوْلُهُ حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِ كُتِبَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ وعَلَى الْمُتَّقِينَ صِفَةٌ أَيْ حَقًّا كَائِنًا عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَعْمُولَ حَقًّا وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ الْمَصْدَرُ الْمُؤَكِّدُ فِي شَيْءٍ وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مؤكدا بِمَا زَاده عَلَى مَعْنَى فِعْلِهِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ حَاصِلٌ بِإِعَادَةِ مَدْلُولِ الْفِعْلِ، نَعَمْ إِذَا أَوْجَبَ ذَلِكَ الْمَعْمُولُ لَهُ تَقْيِيدًا يَجْعَلُهُ نَوْعًا أَوْ عَدَدًا فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنِ التَّأْكِيدِ.

وَخَصَّ هَذَا الْحَقَّ بِالْمُتَّقِينَ ترغيبا فِي الرضى بِهِ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُتَّقِي فَهُوَ أَمْرٌ نَفِيسٌ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ عَلَى الْمُتَّقِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعُصَاةِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ هُوَ مِنَ التَّقْوَى وَأَنَّ غَيْرَهُ مَعْصِيَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خَصَّ الْمُتَّقُونَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لِلرُّتْبَةِ لِيَتَبَارَى النَّاسُ إِلَيْهَا.

وَخَصَّ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ لِأَنَّهُمْ مَظِنَّةُ النِّسْيَانِ مِنَ الْمُوصِي، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الْأَوْلَادَ أَوْ يُوصُونَ لِسَادَةِ الْقَبِيلَةِ.

وَقَدَّمَ الْوَالِدَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمَا أَرْجَحُ فِي التَّبْدِيَةِ بِالْوَصِيَّةِ، وَكَانُوا قَدْ يُوصُونَ بِإِيثَارِ بَعْضِ أَوْلَادِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ يُوصُونَ بِكَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، وَمِنْ أَشْهَرِ الْوَصَايَا فِي ذَلِكَ وَصِيَّةُ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ إِذْ أَوْصَى لِابْنِهِ مُضَرٍ بِالْحَمْرَاءِ، وَلِابْنِهِ رَبِيعَةَ بِالْفَرَسِ،