للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَيُشْرَعُ عِنْدَهُمْ نَذْرُ الصَّوْمِ عِنْدَ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي صِفَةِ الصَّوْمِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ تَرْكُ الْأَقْوَاتِ الْقَوِيَّةِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، أَوْ هُوَ تَنَاوُلُ طَعَامٍ وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ أَكْلَةٌ خَفِيفَةٌ.

وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بَيَانٌ لِحِكْمَةِ الصِّيَامِ وَمَا لِأَجْلِهِ شُرِعَ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ الْمَفْعُول لأَجله لكتب. وَ (لَعَلَّ) إِمَّا مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى كَيِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً، وَإِمَّا تَمْثِيلِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ شَأْنِ اللَّهِ فِي إِرَادَتِهِ مِنْ تَشْرِيعِ الصَّوْمِ التَّقْوَى بِحَالِ الْمُتَرَجِّي مِنْ غَيْرِهِ فِعْلًا مَا، وَالتَّقْوَى الشَّرْعِيَّةُ هِيَ اتِّقَاءُ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا كَانَ الصِّيَامُ مُوجِبًا لِاتِّقَاءِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ قِسْمَانِ، قِسْمٌ يَنْجَعُ فِي تَرْكِهِ التَّفَكُّرُ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ فَتَرْكُهُ يَحْصُلُ بِالْوَعْدِ عَلَى تَرْكِهِ وَالْوَعِيدِ عَلَى فِعْلِهِ وَالْمَوْعِظَةِ بِأَحْوَالِ الْغَيْرِ، وَقِسْمٌ يَنْشَأُ مِنْ دَوَاعٍ طَبِيعِيَّةٍ كَالْأُمُورِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْغَضَبِ وَعَنِ الشَّهْوَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي قَدْ يَصْعُبُ تَرْكُهَا بِمُجَرَّدِ التَّفَكُّرِ، فَجَعَلَ الصِّيَامَ وَسِيلَةً لِاتِّقَائِهَا، لِأَنَّهُ يَعْدِلُ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةَ الَّتِي هِيَ دَاعِيَةُ تِلْكَ الْمَعَاصِي، لِيَرْتَقِيَ الْمُسْلِمُ بِهِ عَنْ حَضِيضِ الِانْغِمَاسِ فِي الْمَادَّةِ إِلَى أَوْجِ الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، فَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلِارْتِيَاضِ بِالصِّفَاتِ الْمَلَكِيَّةِ وَالِانْتِفَاضِ مِنْ غُبَارِ الْكُدُرَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «الصَّوْمُ جُنَّةٌ»

أَيْ وِقَايَةٌ وَلَمَّا تَرَكَ ذِكْرَ مُتَعَلِّقِ جُنَّةٍ تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ أَصْنَافِ الْوِقَايَةِ الْمَرْغُوبَةِ، فَفِي الصَّوْمِ وِقَايَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَآثِمِ وَوِقَايَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَوِقَايَةٌ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَدْوَاءِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْإِفْرَاطِ فِي تَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ظَرْفٌ لِلصِّيَامِ مِثْلَ قَوْلِكَ الْخُرُوجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَضُرُّ وُقُوعُ الْفَصْلِ بَيْنَ الصِّيامُ وَبَيْنَ أَيَّاماً وَهُوَ قَوْلُهُ: كَما كُتِبَ إِلَى تَتَّقُونَ لِأَنَّ الْفَصْلَ لَمْ يَكُنْ بِأَجْنَبِيٍّ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، إِذِ الْحَالُ وَالْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (لَعَلَّ) كُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ عَامِلِ الْمَفْعُولِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صِيَامٌ، وَمِنْ تَمَامِ الْعَامِلِ فِي ذَلِكَ الْعَامِلُ وَهُوَ كُتِبَ فَإِنَّ عَامِلَ الْعَامِلِ فِي الشَّيْءِ عَامِلٌ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلِجَوَازِ الْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ إِذَا كَانَ الْمَعْمُولُ ظَرْفًا، لِاتِّسَاعِهِمْ فِي الظُّرُوفِ وَهَذَا مُخْتَارُ الزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالرَّضِيِّ، وَمَرْجِعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى تَجَنُّبِ تَشْتِيتِ الْكَلَامِ بِاخْتِلَالِ نِظَامِهِ الْمَعْرُوفِ، تَجَنُّبًا لِلتَّعْقِيدِ الْمُخِلِّ بِالْفَصَاحَةِ.

وَالْغَالِبُ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا وَبِخَاصَّةٍ الْعَرَبُ هُوَ الِاسْتِكْثَارُ مِنْ تَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْخُمُورِ وَلَهْوِ النِّسَاءِ وَالدَّعَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوَفِّرُ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةَ وَالدَّمَوِيَّةَ