التَّوَلِّي عَنِ الذِّكْرِ فَحُقَّ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ وَالتَّوَلِّيَ مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَقَارِبَانِ فَالْمُرَادُ بِ مَنْ تَوَلَّى الْفَرِيقُ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ آنِفًا بِقَوْلِهِ: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النَّجْم: ٢] وَقَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم:
١٩] وَالْمُخْبَرُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النَّجْم: ٢٨] إِلَخْ وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [النَّجْم: ٢٧] إِلَخْ.
وَالْإِعْرَاضُ وَالتَّوَلِّي كِلَاهُمَا مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي مَجَازِهِ فَأَمَّا الْإِعْرَاضُ فَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِتَرْكِ الْمُجَادَلَةِ أَوْ لِتَرْكِ الِاهْتِمَامِ بِسَلَامَتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَغَضَبِ اللَّهِ، وَأَمَّا التَّوَلِّي فَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الِاسْتِمَاعِ أَوْ لِعَدَمِ الِامْتِثَالِ.
وَحَقِيقَةُ الْإِعْرَاضِ: لَفْتُ الْوَجْهِ عَنِ الشَّيْءِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَارِضِ وَهُوَ صَفْحَةُ الْخَدِّ لِأَنَّ الْكَارِهَ لِشَيْءٍ يَصْرِفُ عَنْهُ وَجْهَهُ.
وَحَقِيقَةُ التَّوَلِّي: الْإِدْبَارُ وَالِانْصِرَافُ، وَإِعْرَاضُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمُ الْمَأْمُورُ بِهِ مُرَادٌ بِهِ عَدَمُ الِاهْتِمَامِ بِنَجَاتِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا الْإِرْشَادَ وَإِلَّا فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِإِدَامَةِ دَعَوْتِهِمْ لِلْإِيمَانِ فَكَمَا كَانَ يَدْعُوهُمْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدْ دَعَاهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ بَعْدَ نُزُولِهَا، عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ لَا تَخْتَصُّ بِهِمْ فَإِنَّهَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَمَنْ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إِعْرَاضٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مَا أُنْذِرَ بِهِ الْمُعْرِضُونَ وَيَتَأَمَّلُونَ فِيمَا تَصِفُهُمْ بِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا بِالْمُتَارَكَةِ وَلَا هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣] وَقَوْلِهِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٦] ، فَضُمَّ إِلَيْهِ مَا هُنَا.
وَمَا صدق مَنْ تَوَلَّى الْقَوْمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا وَإِنَّمَا جَرَى الْفِعْلُ عَلَى صِيغَةِ الْمُفْرَدِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ.
وَجِيءَ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فَقِيلَ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا دُونَ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنْ عِلَّةِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَمِنْ تَرَتُّبِ تَوَلِّيهِمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى مَا سَبَقَ وَصْفُهُ مِنْ ضَلَالِهِمْ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ وَصْفُهُمْ بِالتَّوَلِي عَنِ الذِّكْرِ وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ وَصْفُ أَسْبَابِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute