للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ ابْنِ مَالِكٍ إِيَّاهُ فِي «شَرْحِ كَافِيَتِهِ» وَفِي «الْخُلَاصَةِ» مَعْنَى التَّعْدِيَةِ. وَلَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ لِأَن مَدْخُول هَذِه اللَّامِ قَدْ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ اللَّامُ تَعْدِيَةً مِثْلَ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمَفْعُولِ، وَغَفَلَ ابْنُ هِشَامٍ عَنْ هَذَا التَّدْقِيقِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْخَامِسُ مِنْ مَعَانِي اللَّامِ الْجَارَّةِ فِي «مُغْنِى اللَّبِيبِ» وَقَدْ مَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [الشورى: ١١] ، وَمَثَّلَ لَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مَرْيَم: ٥] ، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تَصْلُحُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: ٧٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى [الْأَعْلَى: ٨] وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى [اللَّيْل: ٧] وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [اللَّيْل: ١٠] ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَدْخُولَ اللَّامِ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ دَالٌّ عَلَى الْمُتَنَفِّعِينَ بِمَفَاعِيلِ أَفْعَالِهَا فَهُمْ مِثْلُ أَوَّلِ الْمَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ كَسَا.

وَإِنَّمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ اللَّامِ لِدِقَّةِ مَعْنَاهَا وَلِيَتَّضِحَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ.

وَأَصْلُ مَعَانِي لَامِ الْجَرِّ هُوَ التَّعْلِيلُ وَتَنْشَأُ مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّامِ فِي التَّعْلِيلِ الْمَجَازِيِّ مَعَانٍ شَاعَتْ فَسَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فَجَعَلَهَا النَّحْوِيُّونَ مَعَانِيَ مُسْتَقِلَّةً لِقَصْدِ الْإِيضَاحِ.

وَالذِّكْرُ: مَصْدَرُ ذَكَرَ الَّذِي هُوَ التَّذَكُّرُ الْعَقْلِيُّ لَا اللِّسَانِيُّ، وَالَّذِي يُرَادِفُهُ الذُّكْرُ بِضَمِّ

الذَّالِ اسْمًا لِلْمَصْدَرِ، فَالذِّكْرُ هُوَ تَذْكُّرُ مَا فِي تَذَكُّرِهِ نَفَعٌ وَدَفْعُ ضَرٍّ، وَهُوَ الِاتِّعَاظُ وَالِاعْتِبَارُ.

فَصَارَ مَعْنَى يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أَنَّ الْقُرْآنَ سُهِّلَتْ دَلَالَتُهُ لِأَجْلِ انْتِفَاعِ الذِّكْرِ بِذَلِكَ التَّيْسِيرِ، فَجعلت سرعَة ترَتّب التَّذَكُّرِ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِمَنْزِلَةِ مَنْفَعَةٍ لِلذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَشِيعُ وَيَرُوجُ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ طَالِبُ شَيْءٍ إِذَا يُسِّرَتْ لَهُ وَسَائِلُ تَحْصِيلِهِ، وَقُرِّبَتْ لَهُ أَبَاعِدُهَا. فَفِي قَوْلِهِ:

يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَلَفْظُ يَسَّرْنَا تَخْيِيلٌ. وَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى إِلَى: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلْمُتَذَكِّرِينَ.

وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَهُ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، إِلَّا أَنَّ بَيْنَ الِادِّكَارَيْنِ فَرْقًا دَقِيقًا، فَالِادِّكَارُ السَّالِفُ ادِّكَارُ اعْتِبَارٍ عَنْ مُشَاهَدَةِ آثَارِ الْأُمَّةِ البائدة، والادّكار الْمَذْكُور هُنَا ادِّكَارٌ عَنْ سَمَاعِ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ الْبَالِغَةِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ والاهتداء بِهِ.