كَذَّبُوا بِآياتِنا [آل عمرَان: ١١] . وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٤١] .
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَذَّبُوا إِنْذَارَاتِ رَسُولِهِمْ، أَيْ جَحَدُوهَا ثُمَّ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ، فَلِذَلِكَ
فَرَّعَ عَلَى جُمْلَةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ قَوْلَهُ: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِلَى قَوْلِهِ:
بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنُّذُرِ جَمْعَ النَّذِيرِ وَأُطْلِقَ عَلَى نَذِيرِهِمْ لَكَانَ وَجْهُ النَّظْمِ أَنْ تَقَعَ جُمْلَةُ فَقالُوا أَبَشَراً إِلَى آخِرِهَا غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ بِالْفَاءِ لِأَنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ بَيَانًا لِجُمْلَةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ صَالِحًا جَاءَهُمْ بِالْإِنْذَارَاتِ فَجَحَدُوا بِهَا وَكَانَتْ شُبْهَتُهُمْ فِي التَّكْذِيبِ مَا أَعْرَبَ عَنْهُ قَوْلُهُمْ: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِلَى آخِرِهِ، فَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ جَوَابًا عَنْ دَعْوَةٍ وَإِنْذَارٍ، وَإِنَّمَا فَصَّلَ تَكْذِيبَ ثَمُودَ وَأَجْمَلَ تَكْذِيبَ عَادٍ لِقَصْدِ بَيَانِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ ثَمُودَ وَتَكْذِيبِ قُرَيْشٍ إِذْ تَشَابَهَتْ أَقْوَالُهُمْ.
وَالْقَوْلُ فِي انْتِظَامِ جُمْلَةِ فَقالُوا أَبَشَراً إِلَخْ بَعْدَ جملَة كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ كالقول فِي جملَة فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الْقَمَر: ٩] بعد جُمْلَةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [الْقَمَر: ٩] .
وَهَذَا قَوْلٌ قَالُوهُ لِرَسُولِهِمْ لَمَّا أَنْذَرَهُمْ بِالنُّذُرِ لِأَنَّ قَوْله: كَذَّبَتْ يُؤذن بِمَخْبَرٍ إِذِ التَّكْذِيبُ يَقْتَضِي وُجُودَ مُخْبَرٍ. وَهُوَ كَلَامٌ شَافَهُوا بِهِ صَالِحًا وَهُوَ الَّذِي عَنَوْهُ بِقَوْلِهِمْ:
أَبَشَراً مِنَّا إِلَخْ. وَعَدَلُوا عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ.
وَانْتَصَبَ أَبَشَراً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ نَتَّبِعُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ، وَقُدِّمَ لِاتِّصَالِهِ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ حَقَّهَا التَّصْدِيرُ وَاتَّصَلَتْ بِهِ دُونَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى نَتَّبِعُ لِأَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ هُوَ كَوْنُ الْبَشَرِ مَتْبُوعًا لَا اتِّبَاعُهُمْ لَهُ وَمِثْلُهُ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [التغابن: ٦] وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ مَوَاقِعِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا بُيِّنَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي.
وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا إِنْكَارِيٌّ، أَنْكَرُوا أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَرْسَلَ مَلَائِكَةً.
وَوَصْفُ بَشَراً بِ واحِداً: إِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِي دَعْوَتِهِ لَا أَتْبَاعَ لَهُ وَلَا نُصَرَاءَ، أَيْ لَيْسَ مِمَّنْ يُخْشَى، أَيْ بِعَكْسِ قَوْلِ أَهْلِ مَدْيَنَ وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود: ٩١] .