وَتُحْجِمُونَ أُخْرَى كَمَنْ يُحَاوِلُ خِيَانَةً فَيَكُونُ كَالتَّمْثِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخادِعُونَ [الْبَقَرَة: ٩] .
وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّكُمْ تُلْجِئُونَهَا لِلْخِيَانَةِ أَوْ تَنْسُبُونَهَا لَهَا، وَقِيلَ: الِاخْتِيَانُ أَشَدُّ مِنَ الْخِيَانَةِ كَالِاكْتِسَابِ وَالْكَسْبِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» قُلْتُ: وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
[النِّسَاء: ١٠٧] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَالْآنَ إِشَارَةً إِلَى تَشْرِيعِ الْمُبَاشَرَةِ حِينَئِذٍ بَلْ مَعْنَاهُ فَالْآنَ اتَّضَحَ الْحُكْمُ فَبَاشِرُوهُنَّ وَلَا تَخْتَانُوا أَنْفُسَكُمْ.
وَالِابْتِغَاءُ الطَّلَبُ، وَمَا كَتَبَهُ اللَّهُ: مَا أَبَاحَهُ مِنْ مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصِّيَامِ أَوِ اطْلُبُوا مَا قَدَّرَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْوَلَدِ تَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ عَسَى أَنْ يَتَكَوَّنَ النَّسْلُ مِنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِتَكْثِيرِ الْأُمَّةِ وَبَقَاءِ النَّوْعِ فِي الْأَرْضِ.
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ.
عَطَفَ عَلَى بَاشِرُوهُنَّ، وَالْخَيْطُ سِلْكُ الْكَتَّانِ أَوِ الصُّوفِ أَوْ غَيْرِهِمَا يُلْفَقُ بِهِ بَيْنَ الثِّيَابِ بِشَدِّهِ بِإِبْرَةٍ أَوْ مَخِيطٍ، يُقَالُ خَاطَ الثَّوْبَ وَخَيَّطَهُ. وَفِي خَبَرِ قُبُورِ بَنِي أُمَيَّةَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَبْرِهِ كَالْخَيْطِ، وَالْخَيْطُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الشُّعَاعُ الْمُمْتَدُّ فِي الظَّلَامِ وَالسَّوَادُ الْمُمْتَدُّ بِجَانِبِهِ قَالَ أَبُو دُؤَادٍ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ:
فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا سَدْفَةٌ (١) ... وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا
وَقَوْلُهُ: مِنَ الْفَجْرِ مِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيِ الشُّعَاعُ النَّاشِئُ عَنِ الْفَجْرِ، وَقِيلَ بَيَانِيَّةٌ وَقِيلَ تَبْعِيضِيَّةٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي دُؤَادٍ «مِنَ الصُّبْحِ» لِأَنَّ الْخَيْطَ شَائِعٌ فِي السِّلْكِ الَّذِي يُخَاطُ بِهِ فَهُوَ قَرِينَةُ إِحْدَى الْمَعْنَيَيْنِ لِلْمُشْتَرِكِ، وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» تَشْبِيهًا بَلِيغًا، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ اشْتِهَارُ إِطْلَاقِهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ بَعْضِ الْكَلَامِ، كَالْآيَةِ وَبَيْتِ أَبِي دُؤَادٍ، وَعِنْدِي أَنَّ الْقُرْآنَ مَا أَطْلَقَهُ إِلَّا لِكَوْنِهِ كَالنَّصِّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى دُونَ إِرَادَةِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَشْبِيهٍ وَاضِحٍ.
(١) السدفة الضَّوْء بلغَة قيس والظلمة بلغَة تَمِيم فَهِيَ من الأضداد فِي الْعَرَبيَّة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute