للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْكَرِيمُ: النَّفِيسُ الرَّفِيعُ فِي نَوْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩] .

وَهَذَا تَفْضِيلٌ لِلْقُرْآنِ عَلَى أَفْرَادِ نَوْعِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَمَجَلَّةِ لُقْمَانَ، وَفَضْلُهُ عَلَيْهَا بِأَنَّهُ فَاقَهَا فِي اسْتِيفَاءِ أَغْرَاضِ الدِّينِ وَأَحْوَالِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَإِثْبَاتِ الْمُعْتَقَدَاتِ بِدَلَائِلِ التَّكْوِينِ. وَالْإِبْلَاغِ فِي دَحْضِ الْبَاطِلِ دَحْضًا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مِثْلِهِ كِتَابٌ سَابِقٌ، وَخَاصَّةً الِاعْتِقَادَ، وَفِي وُضُوحِ مَعَانِيهِ، وَفِي كَثْرَةِ دَلَالَتِهِ مَعَ قِلَّةِ أَلْفَاظِهِ، وَفِي فَصَاحَتِهِ، وَفِي حُسْنِ آيَاتِهِ، وَحُسْنِ مَوَاقِعِهَا فِي السَّمْعِ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْهِدَايَةِ بِهِ، وَالصَّلَاحِيَةِ لِكُلِّ أُمَّةٍ، وَلِكُلِّ زَمَانٍ، فَهَذَا وَصْفٌ لِلْقُرْآنِ بِالرِّفْعَةِ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ حَقًّا لَا يَسْتَطِيعُ الْمُخَالِفُ طَعْنًا فِيهِ.

وَبَعْدَ أَنْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِ كَرِيمٌ، وُصِفَ وَصْفًا ثَانِيًا بِأَنَّهُ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ وَذَلِكَ وَصْفُ كَرَامَةٍ لَا مَحَالَةَ، فَلَيْسَ لَفْظُ كِتابٍ وَلَا وَصْفُ مَكْنُونٍ مُرَادًا بِهِمَا الْحَقِيقَةُ إِذْ لَيْسَ فِي حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ تَكْرِيمٌ، فَحَرْفُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ.

وَالْكِتَابُ الْمَكْنُونُ: مُسْتَعَارٌ لِمُوَافَقَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ الْمَلِكَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتلك شؤون مَحْجُوبَةً عَنَّا فَلِذَلِكَ وَصَفَ الْكِتَابَ بِالْمَكْنُونِ اشْتِقَاقًا مِنَ الِاكْتِنَانِ وَهُوَ الِاسْتِتَارُ، أَيْ مَحْجُوبٌ عَنْ أَنْظَارِ النَّاسِ فَهُوَ أَمْرٌ مُغَيَّبٌ لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ.

وَحَاصِلُ مَا يُفِيدُهُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي بَلَغَهُمْ وَسَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مُوَافِقٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ إِعْلَامَ النَّاسِ بِهِ وَمَا تَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ بِإِيِجَادِ نَظْمِهِ الْمُعْجِزِ، لِيَكْمُلَ لَهُ وَصْفُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْهُ بَشَرٌ.

وَنَظِيرُ هَذِهِ الظَّرْفِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٩] ، وَقَوْلِهِ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ [فاطر: ١١] أَيْ إِلَّا جَارِيًا عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَجَرَى بِهِ قَدَرُهُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، فَاسْتُعِيرَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ لِمَعْنَى مُطَابَقَةِ مَا هُوَ عِنْدَ