عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ فَهُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ:
«فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ» إِلَخْ.
وَافْتِتَاحُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اعْلَمُوا لِلْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الْحَدِيد: ١٧] .
وأَنَّمَا الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ أُخْتُ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ فِي إِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَحَصْرُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْأَخْبَارِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهَا هُوَ قْصَرُ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ السِّتَّةِ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ النَّاسِ، فَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيُّ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ هِمَمُ غَالِبِ النَّاس من شؤون الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالَّتِي إِنْ سَلِمَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِهِا لَا يَخْلُو مِنْ مُلَابَسَةِ بَعْضٍ آخَرَ إِلَّا الَّذِينَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَجَعَلَ أَعْمَالَهُمْ فِي الْحَيَاةِ كُلِّهَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْحَيَاةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا أَعْمَالُ التُّقَى وَالْمَنَافِعِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّأْيِيدِ لِلْحَقِّ وَتَعْلِيمِ الْفَضَائِلِ وَتَشْرِيعِ الْقَوَانِينِ.
وَقَدْ ذُكِرَ هُنَا من شؤون الْحَيَاةِ مَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ وَمَا لَا يَخْلُو من مقارفة تَضْيِيعِ الْغَايَاتِ الشَّرِيفَةِ أَوِ اقْتِحَامِ مَسَاوٍ ذَمِيمَةٍ، وَهِيَ أُصُولُ أَحْوَالِ الْمُجْتَمَعِ فِي الْحَيَاةِ، وَهِيَ أَيْضًا أَصُولُ أَطْوَارِ آحَادِ النَّاسِ فِي تَطَوُّرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّعِبَ طَوْرُ سِنِّ الطُّفُولَةِ وَالصِّبَا، وَاللَّهْوَ طَوْرُ الشَّبَابِ، وَالزِّينَةَ طَوْرُ الْفُتُوَّةِ، وَالتَّفَاخُرَ طَوْرُ الْكُهُولَةِ، وَالتَّكَاثُرَ طَوْرُ الشَّيْخُوخَةِ. وَذَكَرَ هُنَا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ:
فَاللَّعِبُ: اسْمٌ لِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يُرَاد بِهِ المزح وَالْهَزْلُ لِتَمْضِيَةِ الْوَقْتِ أَوْ إِزَالَةِ وَحْشَةِ الْوَحْدَةِ، أَوِ السُّكُونِ، أَوِ السُّكُوتِ، أَوْ لِجَلْبِ فَرَحٍ وَمَسَرَّةٍ لِلنَّفْسِ، أَوْ يَجْلِبُ مِثْلَ ذَلِكَ لِلْحَبِيبِ، أَوْ يَجْلِبُ ضِدَّهُ لِلْبَغِيضِ، كَإِعْمَالِ الْأَعْضَاءِ وَتَحْرِيكِهَا دَفْعًا لِوَحْشَةِ السُّكُونِ، وَالْهَذَيَانِ الْمَقْصُودِ لِدَفْعِ وَحْشَةِ السُّكُوتِ، وَمِنْه الْعَبَث، وكالمزح مَعَ الْمَرْأَةِ لْاجْتِلَابِ إِقْبَالِهَا وَمَعَ الطِّفْلِ تَحَبُّبًا أَوْ إِرْضَاءً لَهُ.
وَاللَّعِبُ: هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَعْمَالِ الْأَطْفَالِ وَالصِّبْيَانِ فَطَوْرُ الطُّفُولَةِ طَوْرُ اللَّعِبِ وَيَتَفَاوَتُ غَيْرُهُمْ فِي الْإِتْيَانِ مِنْهُ فَيَقِلُّ وَيَكْثُرُ بِحَسْبِ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْأَطْوَارِ الْأُولَى مِنَ الْإِنْسَانِ وَفِي رَجَاحَةِ الْعُقُولِ وَضَعْفِهَا. وَالْإِفْرَاطُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِ طَوْرِهِ يُؤْذِنُ بِخِسَّةِ الْعَقْلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ لَهُ: أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ [الْأَنْبِيَاء: ٥٥] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute