للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الصِّفَاتِ مَا الْفَخْرُ بِهِ غير بَاطِل. وَهُوَ الصِّفَاتُ الَّتِي حَقَائِقُهَا مَحْمُودَةٌ فِي الْعَقْلِ أَوِ الشَّرْعِ.

وَمِنْهَا مَا الْفَخْرُ بِهِ بَاطِلٌ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي اصْطَلَحَ قَوْمٌ عَلَى التَّمَدُّحِ بِهَا وَلَيْسَتْ حَقِيقَةً بِالْمَدْحِ مِثْلَ التَّفَاخُرِ بِالْإِغْلَاءِ فِي ثَمَنِ الْخُمُورِ وَفِي الْمَيْسِرِ وَالزِّنَى وَالْفَخْرِ بِقَتْلِ النُّفُوسِ وَالْغَارَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ حَقٍّ.

وَأَغْلَبُ التَّفَاخُرِ فِي طَوْرِ الْكُهُولَةِ وَاكْتِمَالِ الْأَشُدِّ لِأَنَّهُ زَمَنُ الْإِقْبَالِ عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا الْفَخر.

والتفاخر كثير فِي أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْهُ التَّبَاهِي وَالْعَجَبُ، وَعَنْهُ يَنْشَأُ الْحَسَدُ.

وَالتَّكَاثُرُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الْكَثْرَةِ، وَصِيغَةُ التَّفَاعُلِ هُنَا لِلْمُبَالَغِةِ فِي الْفِعْلِ بِحَيْثُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مَنْ يُغَالِبُ غَيْرَهُ فِي كَثْرَةِ شَيْءٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحْرَصَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَكْثَرَ مِنْهُ عِنْدَهُ فَكَانَ الْمَرْءُ يَنْظُرُ فِي الْكَثْرَةِ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ إِلَى امْرِئٍ آخَرَ لَهُ الْكَثْرَةُ مِنْهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ طَرَفَةَ:

فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ ... وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ

فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَطَافَ بِي ... بَنُونَ كِرَامٌ سَادَةٌ لِمُسَوَّدِ

ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُ صِيغَةِ التَّكَاثُرِ فَصَارَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ مُغَالَبَةِ الْغَيْرِ مِمَّنْ حَصَلَ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ [التَّكَاثُرُ: ١] .

وفِي مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ: إِمَّا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْلِيلِ، وَإِمَّا هِيَ الظَّرْفِيَّةُ الْمَجَازِيَّةُ، فَإِنْ جُعِلَتِ الْأَمْوَالُ كَالظَّرْفِ يَحْصُلُ تَكَاثُرُ النَّاسِ عِنْدَهُ كَمَنْ يَنْزِعُ فِي بِئْرٍ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَقَامَ نِظَامَ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى حِكْمَةِ أَنْ تَكُونَ

الْحَيَاةُ وَسِيلَةً لِبُلُوغِ النُّفُوسِ إِلَى مَا هَيَّأَهَا اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعُرُوجِ إِلَى سُمُوِّ الْمَلَكِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠] ، فَكَانَ نِظَامُ هَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى أَنْ تَجْرِيَ أُمُورُ النَّاسِ فِيهَا عَلَى حَسْبِ تَعَالِيمِ الْهُدَى لِلْفَوْزِ بِالْحَيَاةِ الأبدية فِي النَّعيم الْحَقِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَالْبَعْثِ، فَإِذَا النَّاسُ قَدْ حَرَّفُوهَا عَنْ مَهْيَعِهَا، وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُِِ