وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
معطوفة على يَسْئَلُونَكَ وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ هِيَ مَواقِيتُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ حَتَّى يَكُونَ مَقُولًا لِلْمُجِيبِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا كَانَ مُوَالِيًا أَوْ مُقَارِنًا لِسَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَأَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ كَانَ مُثَارَ تَرَدُّدٍ وَإِشْكَالٍ عَلَيْهِمْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ، فَكَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ مِنْ بِلَادِهِمْ
جَعَلُوا مِنْ أَحْكَامِ الْإِحْرَامِ أَلَّا يَدْخُلَ الْمُحْرِمُ بَيْتَهُ مِنْ بَابِهِ أَوْ لَا يَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ الْمُحْرِمُونَ إِذَا أَرَادُوا أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ تَسَنَّمُوا عَلَى ظُهُورِ الْبُيُوتِ أَوِ اتَّخَذُوا نَقْبًا فِي ظُهُورِ الْبُيُوتِ إِنْ كَانُوا مَنْ أَهْلِ الْمَدَرِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْخيام دخلُوا من خَلْفَ الْخَيْمَةِ، وَكَانَ الْأَنْصَارُ يَدِينُونَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْحُمْسُ فَلَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ هَذَا، وَالْحُمْسُ جَمْعُ أَحْمَسَ وَالْأَحْمَسُ الْمُتَشَدِّدُ بِأَمْرِ الدِّينِ لَا يُخَالِفُهُ، وَهُمْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ وَثَقِيفٌ وَجُشْمٌ وَبَنُو نَصْرِ ابْن مُعَاوِيَةَ وَمُدْلِجٌ وَعَدْوَانُ وَعَضَلٌ وَبَنُو الْحَارِثِ بن عبد مَنَاة، وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَكُلُّهُمْ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ وَحَرَّمَهَا مَا عَدَا بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَإِنَّهُمْ تَحَمَّسُوا لِأَنَّ أُمَّهُمْ قُرَشِيَّةٌ.
وَمَعْنَى نَفْيِ الْبِرِّ عَنْ هَذَا نَفْيٌ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا أَوْ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لِأَنَّهُ غُلُوٌّ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَإِنَّ الْحَجَّ وَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَى أَفْعَالٍ رَاجِعَةٍ إِلَى تَرْكِ التَّرَفُّهِ عَنِ الْبَدَنِ كَتَرْكِ الْمَخِيطِ وَتَرْكِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصِدُ مِنْ تَشْرِيعِهِ إِعْنَاتَ النَّاسِ بَلْ إِظْهَارَ التَّجَرُّدِ وَتَرْكَ التَّرَفُّهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنِ الْحُمْسُ يَفْعَلُونَ، ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَالنَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: وَلَيْسَ الْبِرُّ نَفْيُ جِنْسِ الْبِرِّ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٧٧] وَالْقَرِينَةُ هُنَا هِيَ قَوْلُهُ: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَلَمْ يَقُلْ هُنَالِكَ: وَاسْتَقْبِلُوا أَيَّةَ جِهَةٍ شِئْتُمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَتَيْنِ إِظْهَارُ الْبِرِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ فِي الْآيَتَيْنِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا نَفَى عَنْهُ الْبِرَّ، وَهَذَا هُوَ مَنَاطُ الشَّبَهِ وَالِافْتِرَاقِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ.
رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَّلَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ دَخَلَ بَيْتًا وَأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْصَارِ، قِيلَ: اسْمُهُ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَقِيلَ: رِفَاعَةُ بْنُ تَابُوتٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute