الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ الْمُفِيدُ أَنَّهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى جَيْشٍ وَاحِدٍ مُتَسَانِدِينَ فِيهِ مِمَّا يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَيُجَابُ بِأَنَّ بَيْنَهُمْ بَأْسًا شَدِيدًا وَتَدَابُرًا، فَهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ.
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِ بَأْسُهُمْ لِلِاهْتِمَامِ بِالْأِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ بَيْنَهُمْ، أَيْ مُتَسَلِّطٌ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَيْسَ بَأْسُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِي تَهَكُّمٍ.
وَمَعْنَى بَيْنَهُمْ أَنَّ مَجَالَ الْبَأْسِ فِي مُحِيطِهِمْ فَمَا فِي بَأْسِهِمْ مِنْ إِضْرَارٍ فَهُوَ مُنْعَكِسٌ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْح: ٢٩] .
وَجُمْلَةُ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافٌ عَنْ جُمْلَةِ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ.
لِأَنَّهُ قَدْ يَسْأَلُ السَّائِلُ: كَيْفَ ذَلِكَ وَنَحْنُ نَرَاهُمْ مُتَّفِقِينَ؟ فَأُجِيبُ بِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِمْ حَالُ اجْتِمَاعٍ وَاتِّحَادٍ وَهُمْ فِي بَوَاطِنِهِمْ مُخْتَلِفُونَ فَآرَاؤُهُمْ غير متفقة إِلَّا إِلْفَةَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ بَيْنَهُمْ إِحَنًا وَعَدَاوَاتٍ فَلَا يَتَعَاضَدُونَ.
وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْسَبُ ذَلِكَ. وَهَذَا تَشْجِيعٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ وَالِاسْتِخْفَافِ بِجَمَاعَتِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ تَرْبِيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَحْذَرُوا مِنَ التَّخَالُفِ وَالتَّدَابُرِ وَيَعْلَمُوا أَنْ الْأُمَّةَ لَا تَكُونُ ذَاتَ بَأْسٍ عَلَى أَعْدَائِهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُتَّفِقَةَ الضَّمَائِرِ يَرَوْنَ رَأْيًا مُتَمَاثِلًا فِي أُصُولِ مَصَالِحِهِمَا الْمُشْتَرِكَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي خُصُوصِيَّاتِهَا الَّتِي لَا تَنْقُضُ أُصُولَ مَصَالِحِهَا، وَلَا تُفَرِّقُ جَامِعَتِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الِاتِّحَادِ تَوَافُقُ الْأَقْوَالِ وَلَا التَّوَافُقُ عَلَى الْأَغْرَاضِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الضَّمَائِرُ خَالِصَةً مِنَ الْإِحَنِ وَالْعَدَاوَاتِ.
وَالْقُلُوبُ: الْعُقُولُ وَالْأَفْكَارُ، وَإِطْلَاقُ الْقَلْبِ عَلَى الْعَقْلِ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ.
وَشَتَّى: جَمْعُ شَتِيتٍ بِمَعْنَى مُفَارِقٍ بِوَزْنِ فَعْلَى مَثَلَ قَتِيلٍ وَقَتْلَى، شُبِّهَتِ الْعُقُولُ الْمُخْتَلِفَةُ مَقَاصِدُهَا بِالْجَمَاعَاتِ الْمُتَفَرِّقِينَ فِي جِهَاتٍ فِي أَنَّهَا لَا تَتَلَاقَى فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ وَمِنْ تَشَتُّتِ قُلُوبِهِمْ أَيْ ذَلِكَ مُسَبَّبٌ عَلَى عَدَمِ عَقْلِهِمْ إِذِ انْسَاقُوا إِلَى إِرْضَاءِ خَوَاطِرِ الْأَحْقَادِ وَالتَّشَفِّي بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَأَهْمَلُوا النَّظَرَ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَاتِّبَاعِ الْمَصَالِحِ فَأَضَاعُوا مَصَالِحَ قَوْمِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute