عَذَابَ الْآخِرَةِ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ يُوَسْوِسُ لِلْإِنْسَانِ بِأَنْ يَكْفُرَ ثُمَّ يَتْرُكَهُ وَيَتَبَرَّأَ مِنْهُ فَلَا يَنْتَفِعُ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ وَيَقَعَانِ مَعًا فِي النَّارِ.
فَجُمْلَةُ كَمَثَلِ الشَّيْطانِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الْحَشْر: ١٥] أَيْ فِي الْآخِرَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّيْطانِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَكَذَلِكَ تَعْرِيفُ «الْإِنْسَانِ» . وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ.
وَلَمْ تُرَدْ فِي الْآخِرَةِ حَادِثَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لِإِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ فِي الدُّنْيَا، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ، وَهَلْ يَتَكَلَّمُ الشَّيْطَانُ مَعَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ ظَاهِرَةَ قَوْلِهِ: قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ أَنَّهُ يَقُولُهُ لِلْإِنْسَانِ، وَأَمَّا احْتِمَالُ أَنْ يَقُولَهُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ. فَالْحَقُّ: أَنَّ قَوْلَ الشَّيْطَانِ هَذَا هُوَ مَا فِي آيَةِ وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٢٢] .
وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةَ رَاهِبٍ بِحِكَايَةٍ مُخْتَلِفَةٍ جُعِلَتْ كَأَنَّهَا الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَالْقُرْطُبِيُّ وَضَعَّفَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَسَانِيدَهَا فَلَئِنْ كَانُوا ذَكَرُوا الْقِصَّةَ فَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهَا تَصْلُحُ مِثَالًا لِمَا يَقَعُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ كَمَا مَالَ إِلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ.
فَالْمَعْنَى: إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا: اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ وَوَافَى الْقِيَامَةَ عَلَى الْكُفْرِ قَالَ
الشَّيْطَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، أَيْ قَالَ كُلُّ شَيْطَانٍ لِقَرِينِهِ مِنَ الْإِنْسِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ طَمَعًا فِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ.
فَفِي الْآيَةِ إِيجَازُ حَذْفٍ حُذِفَ فِيهَا مَعْطُوفَاتٌ مُقَدَّرَةٌ بَعْدَ شَرْطِ (لَمَّا) هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الشَّرْطِ إِذِ التَّقْدِيرُ: فَلَمَّا كَفَرَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْكُفْرِ وَجَاءَ يَوْمَ الْحَشْرِ وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ أَضَلَّهُ قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِلَخْ. وَهَذِهِ الْمُقَدَّرَاتُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلِ آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَآيَةِ سُورَةِ ق [٢٧] . قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute