عَنِ الْقَتْلِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الزِّنْجَانِيُّ مُنْتَصِرًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِنْ لَمْ يَرَ مَذْهَبَهُمَا عَلَى الْعَادَةِ، فَقَالَ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَة: ٥] فَقَالَ الصَّاغَانِيُّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْقَاضِي، فَإِنَّ الْآيَةَ الَّتِي اعْتَرَضْتَ بِهَا عَامَّةٌ فِي الْأَمَاكِنِ وَالَّتِي احْتَجَجْتُ بِهَا خَاصَّةٌ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْعَامَّ يَنْسَخُ الْخَاصَّ فَأُبْهِتَ الْقَاضِي الزِّنْجَانِيُّ، وَهَذَا مِنْ بديع الْكَلَام اهـ.
وَجَوَابُ هَذَا أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ عَنِ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ نَاسِخٌ وَحَدِيثُ ابْنِ خَطَلٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي بَرَاءَةَ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ قَتْلَ ابْنِ خَطَلٍ كَانَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ فِيهِ مَكَّةَ فَيَدْفَعُهُ أَنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ انْتَهَتْ بِالْفَتْحِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَزَعَ حِينَئِذٍ الْمِغْفَرَ وَذَلِكَ أَمَارَةُ انْتِهَاءِ سَاعَةِ الْحَرْبِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» : الْكَافِرُ إِذَا لَمْ يُقَاتِلُ وَلَمْ يَجْنِ جِنَايَةً وَلَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْقَتْلَ الَّذِي اقْتَضَتْهُ آيَةُ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
وَهُوَ مِمَّا شَمَلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ، الْإِشَارَة إِلَى الْقَتْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوهُمْ أَيْ كَذَلِكَ الْقَتْلُ جَزَاؤُهُمْ عَلَى حَدِّ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣] وَنُكْتَةُ الْإِشَارَةِ تَهْوِيلُهُ أَيْ لَا يَقِلُّ جَزَاءُ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْقَتْلِ وَلَا مَصْلَحَةٌ فِي الْإِبْقَاءِ عَلَيْهِمْ وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ، فَقَوْلُهُ كَذلِكَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِلِاهْتِمَامِ وَلَيْسَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٩٠] لِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ لَيْسَتْ جَزَاءً إِذْ لَا انْتِقَامَ فِيهَا بَلِ الْقِتَالٌ سِجَالٌ يَوْمًا بِيَوْمٍ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ فَإِنِ انْتَهَوْا عَنْ قِتَالِكُمْ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ غَفُور رَحِيم، فينبعي أَنْ يَكُونَ الْغُفْرَانُ سُنَّةَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ إِذْ كُلُّ سَامِعٍ يَعْلَمُ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِانْتِهَاءِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ تَنْبِيهٌ لِوُجُوبِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ إِنِ انْتَهَوْا بِمَوْعِظَةٍ وَتَأْيِيدٍ لِلْمَحْذُوفِ، وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ.
وَالِانْتِهَاءُ: أَصْلُهُ مُطَاوِعُ نَهَى يُقَالُ: نَهَاهُ فَانْتَهَى ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْكَفِّ عَنْ عَمَلٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute