فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ دَالٌّ عَلَى حَالَةِ الْمُمَثَّلِ لَهُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: يُرِيدُونَ عَوْقَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ كَمَثَلِ قَوْمٍ يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ النُّورِ، فَهَذَا تَشْبِيهُ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ.
ثُمَّ إِنْ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْمَحَاسِنِ أَنَّهُ قَابِلٌ لِتَفْرِقَةِ التَّشْبِيهِ عَلَى أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ، فَالْيَهُودُ فِي
حَالِ إِرَادَتِهِمْ عَوْقَ الْإِسْلَامِ عَنِ الظُّهُورِ مُشَبَّهُونَ بِقَوْمٍ يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ الْإِسْلَامِ فَشُبِّهَ بِمِصْبَاحٍ. وَالْمُشْرِكُونَ مِثْلُهُمْ وَقَدْ مُثِّلَ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِنَظِيرِ هَذَا التَّمْثِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ الْآيَةُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٣٠، ٣٢] ، وَوَصْفهِمُ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ سِحْرٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ تَمْوِيهَاتِهِمْ، فَشُبِّهَ بِنَفْخِ النَّافِخِينَ عَلَى الْمِصْبَاحِ فَكَانَ لِذِكْرِ بِأَفْواهِهِمْ وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ لِأَنَّ الْإِطْفَاءَ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْأَفْوَاهِ مِثْلِ الْمِرْوَحَةِ وَالْكِيرِ، وَهُمْ أَرَادُوا إِبْطَالَ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِزَعْمِ أَنَّهَا مِنْ أَقْوَالِ السِّحْرِ.
وَإِضَافَةُ نُورَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، أَيْ نُورًا أَوْقَدَهُ اللَّهُ، أَيْ أَوْجَدَهُ وَقَدَّرَهُ فَمَا ظَنُّكُمْ بِكَمَالِهِ.
وَاللَّامُ من قَوْله: لِيُطْفِؤُا تُسَمَّى اللَّامَ الزَّائِدَةَ، وَتُفِيدُ التَّأْكِيدَ. وَأَصْلُهَا لَامُ التَّعْلِيلِ، ذُكِرَتْ عِلَّةُ فِعْلِ الْإِرَادَةِ عِوَضًا عَنْ مَفْعُولِهِ بِتَنْزِيلِ الْمَفْعُولِ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ.
وَالتَّقْدِيرُ: يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ لِيُطْفِئُوا. وَيكثر وُقُوع هَذِه اللَّامِ بَعْدَ مَادَّةِ الْإِرَادَةِ وَمَادَّةِ الْأَمْرِ. وَقَدْ سَمَّاهَا بَعْضُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: لَامَ (أَنْ) لِأَنَّ مَعْنَى (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ مُلَازِمٌ لَهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٦] .
فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ اللَّامَ بَعْدَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يُرِيدُونَ وَهِيَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَبْلُغُونَ مُرَادَهُمْ وَأَنَّ هَذَا الدِّينَ سَيَتِمُّ، أَيْ يَبْلُغُ تَمَامَ الِانْتِشَارِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»
. وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ تُفِيدُ ثُبُوتَ هَذَا الْإِتْمَامِ. وَالتَّمَامُ: هُوَ حُصُولُ جَمِيعِ مَا لِلشَّيْءِ