(١)
لمَّا كَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ عقب خُصُومَة الْمُهَاجِرِي والأنصاري وَمَقَالَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِي شَأْنِ الْمُهَاجِرِينَ. تَعَيَّنَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ التَّعْرِيضُ بِكَذِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَبِنِفَاقِهِ فَصِيَغَ الْكَلَامُ بِصِيغَةٍ تَعُمُّ الْمُنَافِقِينَ لِتَجَنُّبِ التَّصْرِيحِ بِالْمَقْصُودِ عَلَى طَرِيقَةِ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ»
وَمُرَادُهُ مَوْلَى بَرِيرَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا لِعَائِشَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَاشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ، وَابْتُدِئَ بِتَكْذِيبِ مَنْ أُرِيدَ تَكْذِيبُهُ فِي ادِّعَائِهِ الْإِيمَانَ بِصدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ إِشْعَارًا بِأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَخَائِلِهِمْ، وَهُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ، لِأَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ مَحْكِيًّا بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ عِبَارَاتٍ كَثِيرَةً تُفِيدُ مَعْنَى أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلَ نُطْقِهِمْ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ.
وَيَجُوزُ أَن يَكُونُوا تواطؤوا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ كُلَّمَا أَعْلَنَ أَحَدُهُمُ الْإِسْلَامَ. وَهَذَا أَلْيَقُ بِحِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِكَلِمَةِ قالُوا دُونَ نَحْوِ: زَعَمُوا.
وإِذا ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْمَاضِي بِقَرِينَةٍ جَعَلَ جُمْلَتَيْهَا مَاضِيَتَيْنِ، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِفَعْلِ
قالُوا وَهُوَ جَوَابُ إِذا.
فَالْمَعْنَى: إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ.
ونَشْهَدُ خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ إِذْ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ أَيِ الْمُعَايَنَةِ، وَالْمُعَايَنَةُ أَقْوَى طُرُقِ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ: أَشْهَدُ وَنَحْوِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْيَقِينِ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ. وَكَثُرَ أَنْ يُجَابَ بِمِثْلِ مَا يُجَابُ بِهِ الْقَسَمُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ قَوْلَهُ: نَشْهَدُ لَيْسَ إِنْشَاءً. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلَهُ صِيغَةَ يَمِينٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ إِعْلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإعلام الْمُسْلِمِينَ بِطَائِفَةٍ مُبْهَمَةٍ شَأْنُهُمُ النِّفَاقُ لِيَتَوَسَّمُوهُمْ وَيَخْتَبِرُوا أَحْوَالَهُمْ وَقَدْ يتلَقَّى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ تَعْيِينَهُمْ أَوْ تَعْيِينَ بَعْضِهِمْ.