للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٧] .

وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى وَخَاصَّةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧] . وَتَعْدِيَتُهَا بِحَرْفِ (إِلَى) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ لِأَنَّ (تَابَ) أَخُو (ثَابَ) .

وَالنَّصُوحُ: ذُو النُّصْحِ.

وَالنُّصْحُ: الْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ وَالْقَوْلُ، أَيِ الصِّدْقُ فِي إِرَادَةِ النَّفْعِ بِذَلِكَ. وَوَصْفُ التَّوْبَةِ بِالنَّصُوحِ مَجَازٌ جُعِلَتِ التَّوْبَةُ الَّتِي لَا تَرَدُّدُ فِيهَا وَلَا تُخَالِطُهَا نِيَّةُ الْعَوْدَةِ إِلَى الْعَمَلِ الْمَتُوبِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّاصِحِ لِغَيْرِهِ فَفِي (نَصُوحٍ) اسْتِعَارَةٌ وَلَيْسَ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَصُوحًا صَاحِبُهَا.

وَإِنَّمَا لَمْ تَلْحَقْ وَصْفَ (نَصُوحٍ) هَاءُ التَّأْنِيثِ الْمُنَاسِبَةِ لِتَأْنِيثِ الْمَوْصُوفِ بِهِ لِأَنَّ فَعُولًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ يُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَصُوحاً بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى مَعْنَى الْوَصْفِ كَمَا عَلِمْتَ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُ (نَصَحَ) مِثْلَ: الْقُعُودِ مِنْ قَعَدَ. وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّ الضَّمَّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَالْقِرَاءَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ.

وَمِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ تَدَارُكُ مَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ مِمَّا وَقَعَ التَّفْرِيطُ فِيهِ مِثْلَ الْمَظَالِمِ لِلْقَادِرِ عَلَى رَدِّهَا.

رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجْمَعُ التَّوْبَةَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ: النَّدَامَةُ عَلَى الْمَاضِي مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِعَادَةُ الْفَرَائِضِ. وَرَدُّ الْمَظَالِمِ، وَاسْتِحْلَالُ الْخُصُومِ، وَأَنْ تُذِيبَ نَفْسَكَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا رَبَّيْتَهَا فِي الْمَعْصِيَةِ، وَأَنْ تُذِيقَهَا مَرَارَةَ الطَّاعَاتِ كَمَا أَذَقْتَهَا حَلَاوَةَ الْمَعَاصِي

. وَتَقُومُ مَقَامَ رَدِّ الْمَظَالِمِ اسْتِحْلَالُ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَعْفُوَ عَنْهُ.

وَمِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ تَمْكِينُ التَّائِبِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُنَفَّذَ عَلَيْهَا الْحُدُودُ كَالْقَوْدِ وَالضَّرْبِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا التَّمْكِينُ وَاجِبٌ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ التَّائِبَ إِذَا نَدِمَ وَنَوَى أَنْ لَا يَعُودَ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ مَنْعُهُ مِنْ تَمْكِينِ نَفْسِهِ مَعْصِيَةً مُتَجَدِّدَةً تَسْتَدْعِي تَوْبَةً.

وَهُوَ كَلَامٌ وَجِيهٌ إِذِ التَّمْكِينُ مِنْ تَنْفِيذِ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً فَلَهَا عُذْرٌ فِي الْإِحْجَامِ عَنِ التَّمْكِينِ مِنْهُ.