للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِهِ قِوَامُهُ، وَأَمَّا مَعْنَى خَلَقَ الْمَوْتَ فَإِيجَادُ أَسْبَابِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَوْتَ عَدَمٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَلْقُ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَرَضًا لِلْمَخْلُوقِ عَبَّرَ عَنْ حُصُولِهِ بِالْخَلْقِ تَبَعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: ٩٦] .

وَأَيْضًا لِأَنَّ الْمَوْتَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَوْجُودِ الْقَادِرِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَكْرَهُهُ. وَالْمَوْتُ مَكْرُوهٌ لِكُلِّ حَيٍّ فَكَانَتِ الْإِمَاتَةُ مَظْهَرًا عَظِيمًا مِنْ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ فِيهَا تَجَلِّي وَصْفِ الْقَاهِرِ.

فَأَمَّا الْإِحْيَاءُ فَهُوَ مِنْ مَظَاهِرِ وَصْفِ الْقَادِرِ وَلَكِنْ مَعَ وَصْفِهِ الْمُنْعِمِ.

فَمَعْنَى الْقُدْرَةِ فِي الْإِمَاتَةِ أَظْهَرُ وَأَقْوَى لِأَنَّ الْقَهْرَ ضَرْبٌ مِنَ الْقُدْرَةِ.

وَمَعْنَى الْقُدْرَةِ فِي الْإِحْيَاءِ خَفِيٌّ بِسَبَبِ أَمْرَيْنِ بِدِقَّةِ الصُّنْعِ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ صِفَةِ الْعِلْمِ، وَبِنِعْمَةِ كَمَالِ الْجِنْسِ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ صِفَةِ الْإِنْعَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٨] .

وَفِي ذِكْرِهِمَا تَخَلُّصٌ إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْآثَارِ الَّتِي أَعْظَمُهَا الْعَمَلُ فِي الْحَيَاةِ وَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَإِنَّ مَعْنَى الْابْتِلَاءِ مُشْعِرٌ بِتَرَتُّبِ أَثَرٍ لَهُ وَهُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَلِ لِلتَّذْكِيرِ بِحِكْمَةِ جَعْلِ هَذَيْنِ النَّامُوسَيْنِ الْبَدِيعَيْنِ فِي الْحَيَوَانِ لِتَظْهَرَ حِكْمَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَيُفْضِيَا بِهِ إِلَى الْوُجُودِ الْخَالِدِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] .

وَهَذَا التَّعْلِيلُ مِنْ قَبِيلِ الْإِدْمَاجِ.

وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلَالَةٍ فِي أَنْفُسِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١] .

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَكُونَ مِنْكُم أَحيَاء يعلمُونَ الصَّالِحَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ أَمْوَاتًا يَخْلُصُونَ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ فَيُجْزَوْنَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِمَا يُنَاسِبُهَا.

فَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَوْتَ ووَ الْحَياةَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيرُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِتَحْيَوْا فَيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَتَمُوتُوا فَتُجْزَوْا عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الْبَلْوَى، وَلِكَوْنِ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ قَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ.