فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ لِشِبْهِ الْمِلْكِ، أَيْ الْوَقَارَ الَّذِي هُوَ تَصَرُّفُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُوَقِّرَكُمْ، أَيْ يُكْرِمَكُمْ بِالنَّعِيمِ، وَإِمَّا تَعَلُّقَ مَفْعُولِ الْمَصْدَرِ، أَيْ أَنْ تُوَقِّرُوا اللَّهَ وَتَخْشَوْهُ وَلَا تَتَهَاوَنُوا بِشَأْنِهِ تَهَاوُنَ مَنْ لَا يَخَافُهُ فَتَكُونُ اللَّامُ لَامَ التَّقْوِيَةِ.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ أَوْ ضَمِيرِ تَرْجُونَ، أَيْ فِي حَالِ تَحَقُّقِكُمْ أَنَّهُ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا.
فَأَمَّا أَنَّهُ خَلَقَهُمْ فَمُوجِبٌ لِلِاعْتِرَافِ بِعَظَمَتِهِ لِأَنَّهُ مُكَوِّنُهُمْ وَصَانِعُهُمْ فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِجَلَالِهِ.
وَأَمَّا كَوْنُ خَلْقِهِمْ أَطْوَارًا فَلِأَنَّ الْأَطْوَارَ الَّتِي يَعْلَمُونَهَا دَالَّةٌ عَلَى رِفْقِهِ بِهِمْ فِي ذَلِك التطور، فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِكُفْرِهِمُ النِّعْمَةَ، وَلِأَنَّ الْأَطْوَارَ دَالَّةٌ عَلَى حِكْمَةِ الْخَالِقِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَإِنَّ تَطَوُّرَ الْخَلْقِ مِنْ طَوْرِ النُّطْفَةِ إِلَى طَوْرِ الْجَنِينِ إِلَى طَوْرِ خُرُوجِهِ طِفْلًا إِلَى طَوْرِ الصِّبَا إِلَى طَوْرِ بُلُوغِ الْأَشُدِّ إِلَى طَوْرِ الشَّيْخُوخَةِ وَطُرُوِّ الْمَوْتِ على الْحَيَاة وطروّ الْبِلَى عَلَى الْأَجْسَادِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كُلُّ ذَلِكَ وَالذَّاتُ وَاحِدَةٌ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَمَكُّنِ الْخَالِقِ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْخَلْقِ وَالتَّبْدِيلِ فِي الْأَطْوَارِ، وَهُمْ يُدْرِكُونَ ذَلِكَ بِأَدْنَى الْتِفَاتِ الذِّهْنِ، فَكَانُوا مَحْقُوقِينَ بِأَنْ
يَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ اللَّهِ وَتَوَقُّعِ عِقَابِهِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى ذَلِكَ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهِمْ وَهَلِ التَّصَرُّفُ فِيهِمْ بِالْعِقَابِ وَالْإِثَابَةِ إِلَّا دُونَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ بِالْكَوْنِ وَالْفَسَادِ.
وَالْأَطْوَارُ: جَمْعُ طَوْرٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَالطَّوْرُ: التَّارَةُ، وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الْأَفْعَالِ أَوْ مِنَ الزَّمَانِ، فَأُرِيدَ مِنَ الْأَطْوَارِ هُنَا مَا يَحْصُلُ فِي الْمَرَّاتِ وَالْأَزْمَانِ مِنْ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ مِنْ تَعَدُّدِ الْمَرَّاتِ وَالْأَزْمَانِ إِلَّا تَعَدُّدُ مَا يَحْصُلُ فِيهَا، فَهُوَ تَعَدُّدٌ بِالنَّوْعِ لَا بِالتَّكْرَارِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
فَإِنْ أَفَاقَ لَقَدْ طَالَتْ عَمَايَتُهُ ... وَالْمَرْءُ يُخْلَقُ طَوْرًا بَعْدَ أَطْوَارِ
وَانْتَصَبَ أَطْواراً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ تَطَوُّرِ خَلْقِهِمْ لِأَنَّ أَطْواراً صَارَ فِي تَأْوِيلِ أَحْوَالًا فِي أطوار.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute