وَالرَّصَدُ: اسْمُ جَمْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الْجِنّ: ٩] .
وَانْتَصَبَ رَصَداً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ يَسْلُكُ.
وَيَتَعَلَّقُ لِيَعْلَمَ بِقَوْلِهِ: يَسْلُكُ، أَيْ يَفْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ لِيُبَلِّغَ الْغَيْبَ إِلَى الرَّسُولِ كَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِمَّا يَلْبِسُ عَلَيْهِ الْوَحْيَ فَيَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ الرُّسُلَ أَبْلَغُوا مَا أُوحِي إِلَيْهِ كَمَا بَعَثَهُ دُونِ تَغْيِيرٍ، فَلَمَّا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ الْوَحْيَ مُفَرَّعًا وَمُسَبَّبًا عَنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، جُعِلَ الْمُسَبَّبَ عِلَّةً وَأُقِيمَ مَقَامَ السَّبَبِ إِيجَازًا فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى وَفْقِ مَا وَقَعَ، وَهَذَا كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ:
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
أَيْ لِيَظْهَرَ مَنْ هُوَ شُجَاعٌ وَمَنْ هُوَ جَبَانٌ فَأَعْلَمُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ هِيَ الْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنِ اطِّلَاعِ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ عَلَى الْغَيْبِ، وَذِكْرُ هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ عِلَلِ الِاطِّلَاعِ فِيهَا.
وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ رَسُولٍ،
ثُمَّ جِيءَ لَهُ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا مُرَاعَاةً لِمَعْنَى رَسُولٍ وَهُوَ الْجِنْسُ، أَيْ الرُّسُلُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى السَّابِقِ آنِفًا فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الْجِنّ:
٢٣] .
وَالْمُرَادُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ اللَّهِ وَأَدَّوُا الْأَمَانَةَ عِلْمًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُمُ الْجَزِيلُ.
وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ أَنَّ الْغَيْبَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةَ هُوَ الْغَيْبُ الْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ نَفْيُ عِلْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِ مَا يُوعَدُونَ بِهِ أَوْ بَعْدَهُ وَذَلِكَ مِنْ عَلَائِقِ الْجَزَاءِ وَالْبَعْثِ.
وَيَلْحَقُ بِهِ مَا يُوحَى بِهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا رُسُلًا لِأَنَّ مَا يُوحَى إِلَيْهِمْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَأْيِيدًا لِشَرْعٍ سَابِقٍ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْحَوَارِيِّينَ أَوْ أَنْ يَكُونَ لِإِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مِثْلَ آدَمَ وَأَيُّوبَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ لَيْسَ بِمُقْتَضٍ أَنْ يُثْبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى جَمِيعُ نَقَائِضِ