للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إِذَا سَقَطَ وَانْفَصَلَ، وَعِنْدِي أَنَّ إِهْلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ كِنَايَةٌ عَنِ اخْتِلَالِ مَا بِهِ قِوَامُ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَكَانُوا أَهْلَ حَرْثٍ وَمَاشِيَةٍ فَلَيْسَ الْمُرَادُ خُصُوصَ هَذَيْنِ بَلِ الْمُرَادُ ضَيَاعُ مَا بِهِ قِوَامُ النَّاسِ، وَهَذَا جَارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ، وَقِيلَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا صَنَعَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَن من ينتسب فِي مِثْلِ ذَلِك صَرِيحًا أَو كِنَايَة مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ التَّذْيِيلِ وَهِيَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ تَحْذِيرًا وَتَوْبِيخًا.

وَمَعْنَى نَفْيِ الْمَحَبَّةِ نَفْيُ الرِّضَا بِالْفَسَادِ، وَإِلَّا فَالْمَحَبَّةُ- وَهِيَ انْفِعَالُ النَّفْسِ وَتَوَجُّهٌ طَبِيعِيٌّ يَحْصُلُ نَحْوُ اسْتِحْسَانٍ نَاشِئٍ- مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهَا فَالْمُرَادُ لَازِمُهَا وَهُوَ الرِّضَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ: الْإِرَادَةُ وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ.

وَلَا شكّ أَن الْقَدِير إِذَا لَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ يُعَاقِبْ فَاعِلَهُ، إِذْ لَا يَعُوقُهُ عَنْ ذَلِكَ عَائِقٌ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ فَسَادًا وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ وَالْحَرْثُ لِلْمُشْرِكِينَ: لِأَنَّ إِتْلَافَ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ رَزْءٌ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْقِتَالُ بِإِتْلَافِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ آلَاتُ الْإِتْلَافِ وَأَسْبَابُ الِاعْتِدَاءِ.

وَالْفَسَادُ ضِدَّ الصَّلَاحِ، وَمَعْنَى الْفَسَادِ: إِتْلَافُ مَا هُوَ نَافِعٌ لِلنَّاسِ نَفْعًا مَحْضًا أَوْ رَاجِحًا، فَإِتْلَافُ الْأَلْبَانِ مَثَلًا إِتْلَافُ نَفْعٍ مَحْضٍ، وَإِتْلَافُ الْحَطَبِ بِعِلَّةِ الْخَوْفِ مِنَ الِاحْتِرَاقِ إِتْلَافُ نَفْعٍ رَاجِحٍ وَالْمُرَادُ بِالرُّجْحَانِ رُجْحَانُ اسْتِعْمَاله عِنْد النَّاسِي لَا رُجْحَانُ كَمِّيَّةِ النَّفْعِ عَلَى كَمِّيَّةِ الضُّرِّ، فَإِتْلَافُ الْأَدْوِيَةِ السَّامَّةِ فَسَادٌ، وَإِنْ كَانَ التَّدَاوِي بِهَا نَادِرًا لَكِنَّ الْإِهْلَاكَ بِهَا كَالْمَعْدُومِ لِمَا فِي عُقُولِ النَّاسِ مِنَ الْوَازِعِ عَنِ الْإِهْلَاكِ بِهَا فَيُتَفَادَى عَنْ ضُرِّهَا بِالِاحْتِيَاطِ رَوَاجِهَا وَبِأَمَانَةِ مَنْ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا إِتْلَافُ الْمَنَافِعِ الْمَرْجُوحَةِ فَلَيْسَ مِنَ الْفَسَادِ كَإِتْلَافِ الْخُمُورِ بَلْهَ إِتْلَافِ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ بِالْمَرَّةِ كَإِتْلَافِ الحيّات والعقارب والفيران وَالْكِلَابِ الْكَلِبَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْفَسَادُ غَيْرَ مَحْبُوبٍ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ فِي الْفَسَادِ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَعْطِيلًا لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِحِكْمَةِ صَلَاحِ النَّاسِ فَإِنَّ الْحَكِيمَ لَا يُحِبُّ تَعْطِيلَ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، فَقِتَالُ الْعَدُوِّ إِتْلَافٌ لِلضُّرِّ الرَّاجِحِ وَلِذَلِكَ يُقْتَصَرُ فِي الْقِتَالِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ إِتْلَافُ الضُّرِّ بِدُونِ زِيَادَةٍ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نَهَى عَنْ إِحْرَاقِ الدِّيَارِ فِي الْحَرْبِ وَعَنْ قَطْعِ الْأَشْجَارِ إِلَّا إِذَا رَجَحَ فِي نَظَرِ أَمِيرِ الْجَيْشِ أَنَّ بَقَاءَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَزِيدُ قُوَّةَ الْعَدُوِّ وَيُطِيلُ مُدَّةَ الْقِتَالِ وَيُخَافُ مِنْهُ عَلَى جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى هَزِيمَةٍ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ: الضَّرُورَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا.