للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَلَهُ أَسْمَاءٌ أُخْرَى هِيَ فِي الْأَصْلِ أَوْصَافٌ أَوْ أَجْنَاسٌ أَنْهَاهَا فِي «الْإِتْقَانِ» إِلَى نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ. وَالَّذِي اشْتُهِرَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ مِنْهَا سِتَّةٌ: التَّنْزِيلُ، وَالْكِتَابُ، وَالْفُرْقَانُ، وَالذِّكْرُ، وَالْوَحْيُ، وَكَلَامُ اللَّهِ.

فَأَمَّا الْفُرْقَانِ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِمَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَقَدْ

وُصِفَ يَوْمَ بَدْرٍ بِيَوْمِ الْفُرْقَانِ وَأُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: ١] وَقَدْ جُعِلَ هَذَا الِاسْمُ عَلَمًا عَلَى الْقُرْآنِ بِالْغَلَبَةِ مِثْلَ التَّوْرَاةِ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى وَالْإِنْجِيلِ عَلَى الْوَحْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى قَالَ تَعَالَى:

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ (١) إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آل عمرَان: ٣، ٤] فَوَصَفَهُ أَوَّلًا بِالْكِتَابِ وَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ الْعَامِّ ثُمَّ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْفُرْقَانِ عَقِبَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَهُمَا عَلَمَانِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْفُرْقَانَ عَلَمٌ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ الْفُرْقَانَ أَنَّهُ امْتَازَ عَنْ بَقِيَّةِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ بِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُعَضِّدُ هَدْيَهُ بِالدَّلَائِلِ وَالْأَمْثَالِ وَنَحْوِهَا، وَحَسْبُكَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ اللَّهِ مِمَّا لَا تَجِدُ مِثْلَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] وَأَذْكُرُ لَكَ مِثَالًا يَكُونُ تَبْصِرَةً لَكَ فِي مَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ فُرْقَانًا وَذَلِكَ أَنَّهُ حَكَى صِفَةَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِقَوْلِهِ:

وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ الْآيَاتُ من سُورَة الْفَتْح (٢) [٢٩] فَلَمَّا وَصَفَهُمُ الْقُرْآنُ قَالَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الْآيَةَ- آلِ عِمْرَانَ [١١٠] فَجَمَعَ فِي هَاتِهِ الْجُمْلَةِ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْكَمَالِ.

وَأَمَّا إِنِ افْتَقَدْتَ نَاحِيَةَ آيَاتِ أَحْكَامِهِ فَإِنَّكَ تَجِدُهَا مُبَرَّأَةً مِنَ اللَّبْسِ وَبَعِيدَةً عَنْ تَطَرُّقِ الشُّبْهَةِ، وَحَسْبُكَ قَوْلَهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا [النِّسَاء: ٣] فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ جُمْلَةً تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى بَلْهَ مَا فِي الْإِنْجِيلِ. وَهَذَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مُهَيْمِنًا عَلَى الْكُتُبِ السَّالِفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: ٤٨] وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ.

وَأَمَّا التَّنْزِيلُ فَهُوَ مَصْدَرُ نَزَّلَ، أُطْلِقَ عَلَى الْمُنْزَلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ أُنْزِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ


(١) فِي المطبوعة: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمرَان: ٧] وَهُوَ سبق قلم من المُصَنّف.
(٢) فِي المطبوعة: (مُحَمَّد) .