قَالَ تَعَالَى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: ٢، ٣] وَقَالَ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السَّجْدَة: ٢] .
وَأَمَّا الْكِتَابُ فَأَصْلُهُ اسْمُ جِنْسٍ مُطْلَقٌ وَمَعْهُودٌ. وَبِاعْتِبَارِ عَهْدِهِ أُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ كَثِيرًا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢] ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْف: ١] وَإِنَّمَا سُمِّيَ كِتَابًا لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ جَامِعًا لِلشَّرِيعَةِ فَأَشْبَهَ التَّوْرَاةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ الْمُرْسَلِ بِهَا، وَأَشْبَهَ الْإِنْجِيلَ الَّذِي لَمْ يُكْتَبْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ وَلَكِنَّهُ كَتَبَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وأصحابهم، وَأَن اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْهُ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَتَلَقَّوْهُ بِحِفْظِ قُلُوبِهِمْ. وَفِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مُعْجِزَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ سَيُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الْأَنْعَام: ٩٢] ، وَقَالَ: وَهذا ذِكْرٌ (١) مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥٠] وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ اتَّخَذَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ كُتَّابًا يَكْتُبُونَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَمن أَوَّلِ مَا ابْتُدِئَ نُزُولُهُ، وَمِنْ أَوَّلِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَدْ وُجِدَ جَمِيعُ مَا حَفِظَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى قَدْرِ مَا وَجَدُوهُ مَكْتُوبًا يَوْمَ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ بِكِتَابَةِ الْمُصْحَفِ.
وَأَمَّا الذِّكْرُ فَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: ٤٤] أَيْ لِتُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اعْتِقَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ.
وَأَمَّا الْوَحْيُ فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الْأَنْبِيَاء: ٤٥] وَوَجْهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّهُ أُلْقِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَذَلِكَ الْإِلْقَاءُ يُسَمَّى وَحْيًا لِأَنَّهُ يُتَرْجِمُ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَالْكَلَامِ الْمُتَرْجَمِ عَنْ مُرَادِ الْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَأْلِيفُ تَرَاكِيبِهِ مِنْ فِعْلِ الْبَشَرِ.
وَأَمَّا كَلَامُ اللَّهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٦] .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَمَرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ وَكِتَابَتِهِ كَتَبُوهُ عَلَى الْوَرَقِ فَقَالَ لِلصَّحَابَةِ: الْتَمِسُوا اسْمًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ سُمُّوهُ إِنْجِيلًا فَكَرِهُوا ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ النَّصَارَى،
(١) فِي المطبوعة (كتاب) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute