وَ (يَشْرِي) مَعْنَاهُ يَبِيع كَمَا أَن يَشْتَرِي بِمَعْنَى يَبْتَاعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَة: ٤١] . وَاسْتُعْمِلَ (يَشْرِي) هُنَا فِي الْبَذْلِ مَجَازًا، وَالْمَعْنَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْذُلُ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ أَيْ هَلَاكًا فِي نَصْرِ الدِّينِ وَهَذَا أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ النَّفْسَ أَغْلَى مَا عِنْد الْإِنْسَان.
ومَرْضاتِ اللَّهِ رِضَاهُ فَهُوَ مَصْدَرُ رَضِيَ عَلَى وَزْنِ الْمَفْعَلِ زِيدَتْ فِيهِ التَّاءُ سَمَاعًا كَالْمَدْعَاةِ وَالْمَسْعَاةِ، فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ نَزَلَتْ فِي صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ النَّمِرِيِّ بْنِ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ (١) الْمُلَقَّبِ بِالرُّومِيِّ لِأَنَّهُ كَانَ أَسَرَهُ الرُّومُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي جِهَاتِ الْمَوْصِلِ وَاشْتَرَاهُ بَنو كلب فَكَانَ مَوْلَاهُمْ وَأَثْرَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمَكَّةَ وَكَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ صُهَيْبٌ مُهَاجِرًا فَلَحِقَ بِهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِيُوثِقُوهُ فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَانْتَثَلَ كِنَانَتَهُ وَكَانَ رَامِيًا وَقَالَ لَهُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْمَاكُمْ وَأَيْمُ اللَّهِ لَا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَرْمِيَ بِمَا فِي كِنَانَتِي ثُمَّ أَضْرَبَ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ فِي يَدِي مِنْهُ شَيْءٌ فَقَالُوا: لَا نَتْرُكُكَ تَخْرُجُ مِنْ عِنْدِنَا غَنِيًّا وَقَدْ جِئْتَنَا صُعْلُوكًا، وَلَكِنْ دُلَّنَا على مَالك وتخلي عَنْكَ وَعَاهَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَدَلَّهُمْ عَلَى مَالِهِ، فَلَمَّا قدم على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ رَآهُ ربح البيع أيا يَحْيَى وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقِيلَ إِنْ كَفَّارَ مَكَّةَ عَذَّبُوا صُهَيْبًا لِإِسْلَامِهِ فَافْتَدَى مِنْهُمْ بِمَالِهِ وَخَرَجَ مُهَاجِرًا، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَأَنَّ صُهَيْبًا أَوْ غَيْرَهُ مُلَاحَظٌ فِي أَوَّلِ مَنْ تَشْمَلُهُ.
وَقَوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ تذييل أَي رؤوف بِالْعِبَادِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، فَالرَّأْفَةُ كِنَايَةٌ عَنْ لَازِمِهَا وَهُوَ إِيتَاءُ الْخَيْرَاتِ كَالرَّحْمَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي قَوْلِهِ (الْعِبَادِ) تَعْرِيفُ اسْتِغْرَاقٍ، لِأَن الله رؤوف بِجَمِيعِ عِبَادِهِ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهَا فَمِنْهُمْ مَنْ تَنَالُهُ رَأْفَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهِمَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَنَالُهُ رَأْفَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ فَإِنَّ مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ أَنَّهُ أَعْطَاهُمُ الْعَافِيَةَ وَالرِّزْقَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ أَيْ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْ قَبِيلِ الَّذِي يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (الْ) عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى
[النازعات: ٤١] ، وَالْعِبَادُ
(١) كَانَ صُهَيْب من الْمُؤمنِينَ الْأَوَّلين، أسلم هُوَ وعمار بن يَاسر فِي يَوْم أحد، شهد بَدْرًا، وَتُوفِّي سنة ٣٧ هـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute