للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٠] الْآيَاتِ تَهْيِئَةٌ لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ لِصَدِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبَيْتِ وَإِرْجَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَالْإِرْجَافِ بِقَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِمَكَّةَ حِينَ أَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى قُرَيْشٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ وَاسْتَطْرَدَ بَعْدَهُ بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمَّا قُضِيَ حَقُّ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأُلْحِقَ بِهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَضْعِهِ فِي مَوْضِعه بَين فِي تِلْكَ الْآيَاتِ، اسْتُؤْنِفَ هُنَا أَمْرُهُمْ بِالرِّضَا بِالسِّلْمِ وَالصُّلْحِ الَّذِي عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا آسِفِينَ مِنْ وُقُوعِهِ وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ

الْخَطَّابِ فَقَدْ قَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ فَكَيْفَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا رَوَاهُ أَهْلُ «الصَّحِيحِ» فَتَكُونُ مُدَّةُ مَا بَيْنَ نُزُولِ الْمُسْلِمِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَتَرَدُّدِ الرُّسُلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ وَمَا بَيْنَ وُقُوعِ الصُّلْحِ هِيَ مُدَّةُ نُزُولِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٠] إِلَى هُنَا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٠] رَاجِعًا إِلَى مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ [الْبَقَرَة: ٢٠٤] أَوْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ [الْبَقَرَة: ٢٠٧] كَمَا سَيَأْتِي يَكُونُ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْجُمْلَةِ ذَاتِ الْمَعَادِ وَالْجُمْلَةِ ذَاتِ الضَّمِيرِ. فَأَمَّا إِذَا فُسِّرَ السِّلْمُ بِالْإِسْلَامِ أَيْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْخِطَابَ بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ يُؤَوَّلُ بِأَنَّهُ أَمْرٌ بِزِيَادَةِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَالتَّغَلْغُلِ فِيهِ لِأَنَّهُ يُقَالُ دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ إِذَا اسْتَقَرَّ وَتَمَكَّنَ، قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: ١٤] . وَقَالَ النَّابِغَةُ:

أَبَى غَفْلَتِي أَنِّي إِذَا مَا ذَكَرْتُهُ ... تَحَرَّكَ دَاءٌ فِي فُؤَادِيَ دَاخِلُ

وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَيُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي (ادْخُلُوا) الدَّوَامُ عَلَى ذَلِكَ وَقِيلَ أُرِيدَ بِالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ فَتَكُونُ خِطَابًا لِلْمُنَافِقِينَ. فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ آمَنُوا بِمَعْنَى أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ فَيَكُونُ تَهَكُّمًا بِهِمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦] فَيَكُونُ خِطَابًا لِلْمُنَافِقِينَ وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا صَارَ كَاللَّقَبِ لِمَنِ اتَّبَعَ الدِّينَ اتِّبَاعًا حَقًّا، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ عَلَى هَذَا أَنْ يُثْبِتَ لِلْمُنَافِقِينَ وَصْفَ الْإِسْلَامِ وَيَطْلُبَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ دُونَ الْعَكْسِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: ١٤] .

وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا: الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْيَهُودِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَيُؤَوَّلُ ادْخُلُوا بِمَعْنَى