شِدَّةِ التَّلَبُّسِ أَيْ بِتَرْكِ مَا لم يَجِيء بِهِ الدِّينُ، لِأَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى تَحْرِيمِ السَّبْتِ وَتَرْكِ شُرْبِ أَلْبَانِ الْإِبِلِ وَبَعْضِ مَا اعْتَادُوهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَيَّامَ تَهَوُّدِهِمْ إِذَا صَحَّ مَا رَوَاهُ أَهْلُ «أَسْبَابِ النُّزُولِ» أَنَّ طَائِفَةً مِنْ مُؤْمِنِي الْيَهُودِ فَعَلُوا ذَلِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السِّلْمِ هُنَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ وَيُرَادُ السِّلْمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنِ اتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ بِأَلَّا يَكُونَ بَعْضُهُمْ حَرْبًا لِبَعْضٍ كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَبِتَنَاسِي مَا كَانَ بَيْنَ قَبَائِلِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَاتِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذَا عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِذِكْرِ اللَّهِ كَذِكْرِهِمْ آبَاءَهُمْ وَكَانُوا يَذْكُرُونَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ تِرَاتِهِمْ وَيَفْخَرُونَ
فَخْرًا قَدْ يُفْضِي إِلَى الْحَمِيَّةِ، أُمِرُوا عَقِبَ ذَلِكَ بِالدُّخُولِ فِي السِّلْمِ وَلِذَلِكَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»
فَتَكُونُ الْآيَةُ تَكْمِلَةً لِلْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِإِصْلَاحِ أَحْوَالِ الْعَرَبِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَبِهَا تَكُونُ الْآيَةُ أَصْلًا فِي كَوْنِ السِّلْمِ أَصْلًا لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ رَفْعُ التَّهَارُجِ كَمَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ أَيِ التَّقَاتُلِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السِّلْمِ هُنَا السِّلْمَ مَعَ الله تَعَالَى مَعَ مَعْنَى الْمَجَازِ، أَيِ ادْخُلُوا فِي مُسَالَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَنْهِيَّاتِهِ كَمَا أَطْلَقَ الْحَرْبَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَجَازًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الْبَقَرَة: ٢٧٩]
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» .
وَ (كَافَّةً) اسْمٌ يُفِيدُ الْإِحَاطَةَ بِأَجْزَاءِ مَا وَصَفَ بِهِ، وَهُوَ فِي صُورَةِ صَوْغِهِ كَصَوْغِ اسْمِ الْفَاعِلَةِ مِنْ كَفَّ وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُصَادَفَةٌ فِي صِيغَةِ الْوَضْعِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْكَفِّ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ صُورَة لَفظهَا وَبني مَعْنَاهَا الْمَقْصُودِ فِي الْكَلَامِ لِقِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ، وَتُفِيدُ مُفَادَ أَلْفَاظِ التَّوْكِيدِ الدَّالَّةِ عَلَى الشُّمُولِ وَالْإِحَاطَةِ.
وَالتَّاءُ الْمُقْتَرِنَةُ بِهَا مُلَازِمَةٌ لَهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَيْفَمَا كَانَ الْمُؤَكَّدُ بِهَا مُؤَنَّثًا كَانَ أَوْ مُذَكَّرًا مُفْرَدًا أَوْ جَمْعًا، نَحْوَ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التَّوْبَة: ٣٦] ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ (كَافَّةً) فِي الْكَلَامِ أَنَّهُ حَالٌ مِنِ اسْمٍ قَبْلَهُ كَمَا هُنَا فَقَوْلُهُ: «كَافَّةً» حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ ادْخُلُوا أَيْ حَالَةَ كَوْنِكُمْ جَمِيعًا لَا يُسْتَثْنَى مِنْكُمْ أَحَدٌ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْجِهَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ فِي ذِكْرِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ وَمِنَ الْمَفْعُولِ أَنَّ (كَافَّةً) إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ وَالْإِحَاطَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا حَالًا مِمَّا جَرَتْ عَلَيْهِ، وَلَا تَكُونُ إِلَّا نَكِرَةً وَلَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute