يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: ٢٠٨] ، وَإِمَّا لِزِيَادَةِ نُكْتَةِ إِبْعَادِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ فَإِنْ زَلَلْتُمْ عَنْ عِزِّ الْحُضُورِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هَلْ يَنْظُرُونَ يَعْنِي التَّارِكِينَ الدُّخُولَ فِي السَّلْمِ، وَقَالَ الْفَخْرُ الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ وَكُتُبِهِ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعَلَى أَنَّ السِّلْمَ أُرِيدَ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَنُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هِيَ هِيَ.
فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِمَنْ يُعْجِبُكَ أَوْ لَهُ وَلِمَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ الْعَجِيبَتَيْنِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ تُثِيرَانِ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ جَزَاءِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ جَوَابًا لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا فَجُمْلَةُ هَلْ يَنْظُرُونَ اسْتِئْنَافٌ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ خَشْيَةَ يَوْمِ الْجَزَاءِ أَوْ طَمَعًا فِي ثَوَابِهِ وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِلَّذِينَ زَلُّوا مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ [الْبَقَرَة:
٢٠٩] فَالْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُون جملَة أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الْبَقَرَة: ٢٠٩] لِأَنَّ مَعْنَاهُ
فَإِنْ زَلَلْتُمْ فَاللَّهُ لَا يُفْلِتُكُمْ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَعَدَمُ الْإِفْلَاتِ يَشْتَمِلُ عَلَى إِتْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْيَهُودِ فَهُوَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى مُكَابَرَتِهِمْ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِحَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ. وَعَلَى كُلِّ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي لَا تَتَنَافَى فَقَدْ جَاءَ نَظْمُ قَوْلِهِ هَلْ يَنْظُرُونَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ نَظْمًا جَامِعًا لِلْمَحَامِلِ كُلِّهَا مِمَّا هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ إِعْجَازِ هَذَا الْكَلَامِ الْمَجِيدِ الدَّالِّ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ شَيْءٍ.
وَحَرْفُ (هَلْ) مُفِيدٌ الِاسْتِفْهَامَ وَمُفِيدٌ التَّحْقِيقَ وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ أَمْرٍ يُرَادُ تَحْقِيقُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ أَئِمَّةُ الْمَعَانِي إِنَّ هَلْ لِطَلَبِ تَحْصِيلِ نِسْبَةٍ حِكْمِيَّةٍ تَحْصُلُ فِي عِلْمِ الْمُسْتَفْهِمِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : إِنَّ أَصْلَ هَلْ أَنَّهَا مُرَادِفَةُ قَدْ فِي الِاسْتِفْهَامِ خَاصَّةً، يَعْنِي قَدْ الَّتِي لِلتَّحْقِيقِ وَإِنَّمَا اكْتَسَبَتْ إِفَادَةَ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ تَقْدِيرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظُهُورُ الْهَمْزَةِ فِي قَوْلِ زَيْدِ الْخَيْلِ:
سَائل فوارس بربوع بِشِدَّتِنَا ... أَهَلْ رَأَوْنَا بِسَفْحِ الْقَاعِ ذِي الْأَكَمِ
وَقَالَ فِي «الْمُفَصَّلِ» : وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ هَلْ بِمَعْنَى قَدْ إِلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْأَلِفَ قَبْلَهَا لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إِلَّا فِي الِاسْتِفْهَامِ اهـ. يَعْنِي أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ الْتُزِمَ حَذْفُهَا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِمُلَازَمَةِ هَلْ لِلْوُقُوعِ فِي الِاسْتِفْهَامِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ هَلْ تَرِدُ بِمَعْنَى قَدْ مُجَرَّدَةً عَنِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّ مَوَارِدَهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَبِالْقُرْآنِ يُبْطِلُ ذَلِكَ وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالْمُبَرِّدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute