للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْعَرْبَدَةِ مِنْ هَذَيَانٍ، وَكَذِبٍ وَسِبَابٍ، وَاللَّغْوُ وَالْكَذِبُ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تَعْرِضُ لِمَنْ تَدِبُّ الْخَمْرُ فِي رُؤُوسِهِمْ، أَيْ فَأَهْلُ الْجَنَّةِ يُنَعَّمُونَ بِلَذَّةِ السُّكْرِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَلَا تَأْتِي الْخَمْرُ عَلَى كَمَالَاتِهِمُ النَّفْسِيَّةِ كَمَا تَأْتِي عَلَيْهَا خَمْرُ الدُّنْيَا.

وَكَانَ الْعَرَبُ يَمْدَحُونَ مَنْ يُمْسِكُ نَفْسَهُ عَنِ اللَّغْوِ وَنَحْوِهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، قَالَ عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ:

وَلَسْنَا بِشَرْبٍ أُمَّ عَمْرٍو إِذَا انْتَشَوْا ... ثِيَابُ النَّدَامَى بَيْنَهُمْ كَالْغَنَائِمِ

وَلَكِنَّنَا يَا أُمَّ عَمْرٍو نَدِيمُنَا ... بِمَنْزِلَةِ الرَّيَّانِ لَيْسَ بِعَائِمِ

وَكَانَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ مِمَّنْ حَرَّمَ الْخَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ:

فَإِنَّ الْخَمْرَ تَفْضَحُ شَارِبِيهَا ... وَتَجْنِيهِمْ بِهَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَا

وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُ فِيها إِلَى مَفازاً بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِهِ بِالْجَنَّةِ لِوُقُوعِهِ فِي مُقَابَلَةِ جَهَنَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً [النبأ: ٢١] أَوْ لِأَنَّهُ أَبْدَلَ حَدائِقَ مِنْ مَفازاً وَهَذَا الْمَعْنَى نَشَأَ عَنْ أُسْلُوبِ نَظْمِ الْكَلَامِ حَيْثُ قُدِّمَ حَدائِقَ وَأَعْناباً إِلَخْ، وَأُخِّرَ وَكَأْساً دِهاقاً حَتَّى إِذَا جَاءَ ضَمِيرُ (فِيهَا) بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ إِرْجَاعُهُ إِلَى الْكَأْسِ وَإِلَى الْمَفَازِ كَمَا عَلِمْتَ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ مَعَ وَفْرَةِ الْمَعَانِي مِمَّا عَدَّدْنَاهُ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ مِنْ جَانِبِ الْأُسْلُوبِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، أَيْ لَا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ الْكَلَامَ السَّافِلَ وَلَا الْكَذِبَ، فَلَمَّا أَحَاطَ بِأَهْلِ جَهَنَّمَ أَشَدُّ الْأَذَى بِجَمِيعِ حَوَاسِّهِمْ مِنْ جَرَّاءَ حَرْقِ النَّارِ وَسَقْيِهِمُ الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ لِيَنَالَ الْعَذَابُ بَوَاطِنَهُمْ كَمَا نَالَ ظَاهِرَ أَجْسَادِهِمْ، كَذَلِكَ نَفَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَقَلَّ الْأَذَى وَهُوَ أَذَى سَمَاعِ مَا يَكْرَهُهُ النَّاسُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ الْأَذَى.

وَكُنِّيَ عَنِ انْتِفَاءِ اللَّغْوِ وَالْكِذَّابِ عَنْ شَارِبِي خَمْرِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ اللَّغْوَ وَالْكِذَّابَ فِيهَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا لَغْوٌ وَكَذِبٌ لَسَمِعُوهُ وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ أَيْ لَا منار بِهِ فَيُهْتَدَى بِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَةِ، وَالَّذِي فِي الْآيَةِ أَحْسَنُ مِمَّا وَقَعَ فِي بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مُنَزَّهَةٌ أَسْمَاعُهُمِِْ