للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَعْرِيفُ لَفْظِ الْجِنْسِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ مَعْنَاهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِلْجِنْسِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَلَا يَقْتَضِي اتِّصَافَ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ بِهِ، بَلْ قَدْ يَخْلُو عَنْهُ بَعْضُ الْأَفْرَادِ وَقَدْ يَخْلُو عَنْهُ الْمُتَّصِفُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَقَوْلُهُ: مَا أَكْفَرَهُ تَعْجِيبٌ مِنْ كُفْرِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ أَوْ شِدَّةِ كُفْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْقَلِيلُ مِنْهُ غَيْرَ كَافِرٍ.

فَآلَ مَعْنَى الْإِنْسَانِ إِلَى الْكُفَّارِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَهُمُ الْغَالِبُ عَلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ.

فَغَالِبُ النَّاسِ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْ أَقْدَمِ عُصُورِ التَّارِيخِ وَتَفَشَّى الْكُفْرُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَانْتَصَرُوا لَهُ وَنَاضَلُوا عَنْهُ. وَلَا أَعْجَبَ مِنْ كُفْرِ مَنْ أَلَّهُوا أَعْجَزَ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ حِجَارَةٍ وَخَشَبٍ، أَوْ نَفَوْا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ رَبٌّ خَلَقَهُمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفُ الْإِنْسانُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْإِنْسَانِ يُعَيِّنُهُ خَبَرُ سَبَبِ النُّزُولِ، فَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَكَانَ مِمَّنْ حَوَاهُ الْمَجْلِسُ الَّذِي غَشِيَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي لَهَبٍ، وَذُكِرَ فِي ذَلِكَ قِصَّةٌ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِخَبَرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي غَشِيَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةً.

وَجُمْلَةُ مَا أَكْفَرَهُ تَعْلِيلٌ لِإِنْشَاءِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ دُعَاءَ التَّحْقِيرِ وَالتَّهْدِيدِ. وَهَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ شِدَّةِ كُفْرِ هَذَا الْإِنْسَانِ.

وَمَعْنَى شِدَّةِ الْكُفْرِ أَنَّ كُفْرَهُ شَدِيدٌ كَمًّا وَكَيْفًا، وَمَتًى، لِأَنَّهُ كُفْرٌ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، وَبِإِرْسَالِهِ الرَّسُولَ، وَبِالْوَحْيِ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ كُفْرٌ قَوِيٌّ لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ قَوِيٌّ لَا يَقْبَلُ التَّزَحْزُحَ، وَأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ لَا يُقْلَعُ عَنْهُ مَعَ تَكَرُّرِ التَّذْكِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَلَغَتْ نِهَايَةَ الْإِيجَازِ وَأَرْفَعَ الْجَزَالَةِ بِأُسْلُوبٍ غَلِيظٍ دَالٍّ عَلَى السُّخْطِ بَالِغِ حَدِّ الْمَذَمَّةِ، جَامِعٍ لِلْمَلَامَةِ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهَا قَبْلَهَا، فَهِيَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الْقُرْآنِيَّةِ.