الْكَوَاكِبُ، وُصِفْنَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي النَّهَارِ مُخْتَفِيَةً عَنِ الْأَنْظَارِ فَشُبِّهَتْ بِالْوَحْشِيَّةِ الْمُخْتَفِيَةِ فِي شَجَرٍ وَنَحْوِهِ، فَقِيلَ: الْخُنَّسُ وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ الْخُنُوسَ اخْتِفَاءُ الْوَحْشِ عَنْ أَنْظَارِ الصَّيَّادِينَ وَنَحْوهم دون سُكُون فِي كِنَاسٍ، وَكَذَلِكَ الْكَوَاكِبُ لِأَنَّهَا لَا تُرَى فِي النَّهَارِ لِغَلَبَةِ شُعَاعِ الشَّمْسِ عَلَى أُفُقِهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي مَطَالِعِهَا.
وَشبه مَا يَبْدُو للأنظار من تنقلها فِي سمت الناظرين للأفق بِاعْتِبَار اخْتِلَاف مَا يسامتها من جُزْء من الكرة الأرضية بِخُرُوج الْوَحْش، فشبهت حَالَة بدوّها بعد احتجابها مَعَ كَونهَا كالمتحركة بِحَالَة الْوَحْش تجْرِي بعد خنوسها تَشْبِيه التَّمْثِيل. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهَا صَارَت مرئية فَلذَلِك عقب بعد ذَلِك بوصفها بالكنّس، أَي عِنْد غُرُوبهَا تَشْبِيها لغروبها بِدُخُول الظبي أَو
الْبَقَرَة الوحشية كناسها بعد الانتشار والجري.
فَشُبِّهَ طُلُوعُ الْكَوْكَبِ بِخُرُوجِ الْوَحْشِيَّةِ مِنْ كِنَاسِهَا، وَشُبِّهَ تَنَقُّلُ مَرْآهَا لِلنَّاظِرِ بِجَرْيِ الْوَحْشِيَّةِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ كِنَاسِهَا صَبَاحًا، قَالَ لَبِيدٌ:
حَتَّى إِذَا انْحَسَرَ الظَّلَامُ وَأَسْفَرَتْ ... بَكَرَتْ تَزِلُّ عَنِ الثَّرَى أَزْلَامُهَا
وَشُبِّهَ غُرُوبُهَا بَعْدَ سَيْرِهَا بِكُنُوسِ الْوَحْشِيَّةِ فِي كِنَاسِهَا وَهُوَ تَشْبِيهُ بَدِيعٌ فَكَانَ قَوْلُهُ:
بِالْخُنَّسِ اسْتِعَارَة وَكَانَ الْجَوارِ الْكُنَّسِ تَرْشِيحَيْنِ لِلِاسْتِعَارَةِ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثِ مَا يُشْبِهُ اللُّغْزَ يُحْسَبُ بِهِ أَنَّ الْمَوْصُوفَاتِ ظِبَاءٌ أَوْ وُحُوشٌ لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ حَقَائِقُهَا مِنْ أَحْوَالِ الْوُحُوشِ، وَالْأَلْغَازُ طَرِيقَةٌ مُسْتَمْلَحَةٌ عِنْدَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ وَهِيَ عَزِيزَةٌ فِي كَلَامِهِمْ، قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِهِمْ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ:
فَقُلْتُ أَعِيرَانِي الْقُدُومَ لَعَلَّنِي ... أَخُطُّ بِهَا قَبْرًا لِأَبْيَضَ مَاجِدِ
أَرَادَ أَنَّهُ يَصْنَعُ بِهَا غِمْدًا لِسَيْفٍ صَقِيلٍ مُهَنَّدٍ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ: حَمْلُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى حَقَائِقِهَا الْمَشْهُورَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute