أَيْ لَا يَغُرَّنَّكُمْ غُرُورًا مُتَلَبِّسًا بِشَأْنِ اللَّهِ، أَي مصاحبا لشؤون اللَّهِ مُصَاحِبَةً مَجَازِيَّةً وَلَيْسَتْ هِيَ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ كَمَا يُقَالُ: غَرَّهُ بِبَذْلِ الْمَالِ، أَوْ غرّه بالْقَوْل. وَإِذ كَانَتِ الْمُلَابَسَةُ لَا تُتَصَوَّرُ مَاهِيَّتُهَا مَعَ الذَّوَاتِ فَقَدْ تَعَيَّنَ فِي بَاءِ الْمُلَابَسَةِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ ذَاتٍ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا تَقْدِيرُ شَأْن من شؤون الذَّاتِ يُفْهَمُ مِنَ الْمَقَامِ، فَالْمَعْنَى هُنَا: مَا غَرَّكَ بِالْإِشْرَاكِ بِرَبِّكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ الْآيَةَ فَإِنَّ مُنْكِرَ الْبَعْثِ يَوْمَئِذٍ لَا يَكُونُ إِلَّا مُشْرِكًا.
وَإِيثَارُ تَعْرِيفِ اللَّهِ بِوَصْفِ «رَبِّكَ» دُونَ ذِكْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي مَعْنَى الرَّبِّ مِنَ الْمُلْكِ وَالْإِنْشَاءِ وَالرِّفْقِ، فَفِيهِ تَذْكِيرٌ لِلْإِنْسَانِ بِمُوجِبَاتِ اسْتِحْقَاقِ الرَّبِّ طَاعَةَ مَرْبُوبِهِ فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ.
وَكَذَلِكَ إِجْرَاءُ وَصْفِ الْكَرِيمِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لِلتَّذْكِيرِ بِنِعْمَتِهِ عَلَى النَّاسِ وَلُطْفِهِ بِهِمْ فَإِنَّ الْكَرِيمَ حَقِيقٌ بِالشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ.
وَالْوَصْفُ الثَّالِثُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الصِّلَةُ: فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ جَامِعٌ لِكَثِيرٍ مِمَّا يُؤْذِنُ بِهِ الْوَصْفَانِ الْأَوَّلَانِ فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالتَّسْوِيَةَ وَالتَّعْدِيلَ وَتَحْسِينَ الصُّورَةِ مِنَ الرِّفْقِ بِالْمَخْلُوقِ، وَهِيَ نِعَمٌ عَلَيْهِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَتِهِ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ.
وَذُكِرَ عَنْ صَالِحِ بْنِ مِسْمَارٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: «غَرَّهُ جَهْلُهُ» ، وَلَمْ يَذْكُرْ سَنَدًا.
وَتَعْدَادُ الصِّلَاتِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا قَدْ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الْبَعْضِ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ حَالَةٌ مِنْ حَالَاتِ الْخَلْقِ، وَقَدْ يُغْنِي ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ الْخَلْقِ كَقَوْلِهِ: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [الْبَقَرَة:
٢٩] وَلَكِنْ قُصِدَ إِظْهَارُ مَرَاتِبِ النِّعْمَةِ. وَهَذَا مِنَ الْإِطْنَابِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّذْكِيرُ بِكُلِّ صِلَةٍ وَالتَّوْقِيفُ عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا، وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِطْنَابِ مَقَامُ التَّوْبِيخِ.
وَالْخَلْقُ: الْإِيجَادُ عَلَى مِقْدَارٍ مَقْصُودٍ.
وَالتَّسْوِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ سَوِيًّا، أَيْ قَوِيمًا سَلِيمًا، وَمِنَ التَّسْوِيَةِ جَعْلُ قُوَاهُ وَمَنَافِعِهِ الذَّاتِيَّةِ مُتَعَادِلَةً غَيْرَ مُتَفَاوِتَةٍ فِي آثَارِ قِيَامِهَا بِوَظَائِفِهَا بِحَيْثُ إِذَا اخْتَلَّ بَعْضُهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute